المازوت “النظيف” يدخل لبنان بالصهاريج… ووعدٌ ببيعه بأقلّ من سعر الكلفة
انتقل ملف استقدام النفط الإيراني، وتهريبه من سوريا أو البقاع، من تعويض النقص في الأسواق إلى احتمال المضاربة. فمع قرب رفع الدعم عن المحروقات وتوفّرها في الأسواق بالسعر العالمي، أعلن أمين عام “حزب الله” أنه سيبيع المشتقات النفطية بأقل من سعر الكلفة. فهل قصد بذلك البيع بسعر السوق وتحمل الحزب الفرق؟ أم البيع بأقل من سعر السوق؟
إذا لم يعلق الاقتصاد اللبناني بـ”شباك” العقوبات الأميركية، سيغرق بالمنافسة غير المشروعة وتشريع الاقتصاد الأسود، وضرب هيبة الدولة وما تبقى للشركات من قدرة على الصمود. حيث أن بيع أي سلعة بأقل من كلفتها يُعرف في علم الاقتصاد بـ ا”لإغراق” أو “التسعير الضار”. وهو يهدف إلى كسب حصة في السوق والقضاء على المنافسين. وهذا ما لم ينفِه السيد حسن نصرالله عندما قال إن “نسبة معينة من سعر الكلفة سنتحمله نحن ونعتبره هدية وهبة ومساندة للشعب اللبناني من قبل الجمهورية الاسلامية في إيران وحزب الله”. وذلك بهدف “كسر السوق السوداء وجشع المحتكرين”. فهل يكون النفط الايراني الرخيص المقدمة للسيطرة على السوق اللبناني من باب المساعدة في المرحلة الأولى، والتحكم به بعد إخراج اللاعبين الأساسيين كما يريد في المرحلة اللاحقة؟ أسئلة وهواجس تطرحها مواقف “حزب الله” وإيران الجيوستراتيجية في المنطقة، ونية الأخيرة بسط نفوذها واخضاع المزيد من البلدان لسيطرتها المباشرة. والثمن الذي يبدو في الشكل كبيراً، ما هو في الحقيقة إلا “فراطة” في الحسابات الدولية.
تشريع كل ما هو غير قانوني
بغض النظر عن الكميات “غير التجارية” التي ستصل الى “حزب الله” من إيران، فان التجارة والاقتصاد لا يُبنيان على النوايا، إنما على الأفعال. ولا يكفي القول أن الهدف “ليس البيع أو التجارة بل المساعدة في تخفيف المعاناة عن الناس”، لاعطاء هذه الممارسة “شيكاً على بياض”. فالكميات التي ستصل الى لبنان ليست قليلة. حيث تقدر الدفعة الأولى بنحو 29 مليون ليتر. وستتبعها بحسب ما ينقل عن “حزب الله” وصول باخرتين حمولة الواحدة منها 33 ألف طن. كما أن الجهة المستقدمة ليست تاجراً. وهي لا تملك رخصاً للمتاجرة بالمشتقات النفطية، ولا تدفع الضرائب والرسوم وضريبة القيمة المضافة… وكل ما يتطلبه العمل التجاري.
فـ”استيراد النفط يخضع لاجراءات وأصول تبدأ بأخذ موافقة المنشآت النفطية وتسديد الضرائب والرسوم وفحص المواد ومقارنة مدى مطابقتها للمواصفات”، يقول المحامي مجد حرب. و”هذا ما لم يفعله “حزب الله” جرياً على عادته في مخالفة القوانين. فتحول اقتصاده غير الشرعي إلى أمر طبيعي يمارسه بالعلن، بعدما كانت تتم مختلف العمليات في الخفاء. وهذا ما يظهر جلياً في ما يتعلق باستيراد المحروقات حديثاً، وببنائه منظومة مصرفيه غير مرخصة قبل فترة، واللائحة تطول من تجاوزات لكل ما هو قانوني”.
مع العلم أن ما يؤخذ على “حزب الله” في موضوع استيراد المحروقات تحديداً “لا يتعلق بالمنافسة غير المشروعة مع كارتلات النفط الشرعية، لان الأخيرة لا تستحق حماية أحد أو الدفاع عنها. ومصلحة المواطن تطغى على مصالح هذه القلة المحتكرة التي أذاقت المواطنين المر خصوصاً في الفترة الأخيرة”. من وجهة نظر حرب. “لكن اذا كان لا بد لهذا الفريق أن يقوم بعمل مطلوب أو مرغوب تجاه الاقتصاد والمؤسسات والمواطنين، فليعُطَ رخصة استثنائية بمرسوم يجيز له استيراد المشتقات النفطية بسبب الضرورات القصوى. فمن غير المنطقي أن يسمح لفريق من اللبنانيين بمخالفة القوانين من دون محاسبة فيما يقع الويل والثبور وعظائم الأمور على كل من يتجرأ على إدخال “قشة” على البلد من دون إذن وبعد دفع كل الرسوم والضرائب والعمولات، مع ما يتطلبه ذلك من وجود شركة حاصلة على براءة ذمة وخلافه من المتطلبات”. فلتحافظ الدولة على ماء وجهها أقله، و”لتصدر مراسيم تسمح لـ”حزب الله” بممارسة هذا العمل التجاري” يقول حرب.
و”تفتح المجال من جهة اخرى لانتقادها والاعتراض على تصرفاتها بالقنوات القانونية والشرعية. وعندها كل فريق يأخذ حقة بشكل طبيعي كما في كل الدول المتحضرة. ويضيف حرب “المهم أن تكون هناك قاعدة للتعاطي مع الدولة من الداخل والخارج. ولو أننا نعرف انها محتله وقرارها ليس بيدها. إذ لا يجوز أن تستمر هذه الإزدواجية التي لم تأتِ على البلد إلا بالمشاكل والأزمات”.
إشكالية دخول المواد
الاشكالية الأخرى التي ستواجه عملية استيراد النفط الايراني تتعلق بكيفيه إدخال المواد. فان “عبرت الصهاريج من المعابر الشرعية عندها قد تتعرض الدولة اللبنانية إلى العقوبات الأميركية على غرار سوريا وإيران”، برأي حرب. أما إذا دخلت تهريباً من المعابر غير الشرعية فهي تثبت مرة جديدة ضلوع الحزب بالتهريب وإمساكه بكل المعابر غير الشرعية. فما يستخدم لإدخال المواد يستخدم أيضا لإخراجها”.
بيع المخزّن؟
في الوقت الذي تعج فيه مختلف مواقع التواصل الاجتماعي بصور الصهاريج التي ستنقل المواد إلى لبنان من البقاع، لم تظهر أي صورة للباخرة الإيرانية وهي تفرغ حمولتها في مرفأ بانياس. الأمر الذي دفع بالباحثة الاقتصادية د. ليال منصور للسؤال عن إمكانية أن تكون المواد التي ستباع اليوم أو جزء منها، بسعر قريب من سعر السوق الحالي مخزنة منذ أن بدأ الدعم نهاية العام 2019. وبذلك لا يكون البيع بأقل من سعر الكلفة بمثابة هدية يتحملها الحزب، إنما عنصر ربح وفير”. وبالأرقام فان سعر مبيع طن المازوت في لبنان خلال العام 2020 كان يقدر بـ 750 ألف ليرة، إذا اعتبرنا أن متوسط سعر الصفيحة 15 ألف ليرة. ومنذ مطلع العام 2021 ولغاية نهاية حزيران، أي قبل ترشيد الدعم على أساس 3900 ليرة بلغ متوسط سعر طن المازوت مليون و250 ألف ليرة. في حين أن السعر اليوم في ظل تخفيض الدعم إلى 8000 ليرة يبلغ 4 ملايين و900 ألف ليرة. ما يعني أنه حتى لو باع الحزب الطن بنفس سعر السوق اليوم، فسيبقى رابحاً اذا كان مصدر المواد أو جزء منها هو من التخزين وليس من إيران. وما يؤكد الاحتمال المرتفع لهذه النظرية هو الكميات المهربة منذ العام 2020 والتي بلغت بحسب الاحصاءات 1.2 مليار ليتر من المازوت أي ما يعادل 1.2 مليون طن. في حين أن كل حجم الدفعة الأولى التي ستصل إلى لبنان تقدر بـ 33 ألف طن كحد أقصى.
مدفوع ثمنه سلفاً بأضعاف مضاعفة
التسليم جدلاً بان “الحزب” استقدم المشتقات النفطية من إيران، وسيبيعها بالليرة اللبنانية بسعر الكلفة أو حتى أقل يمثل “ربحاً للاقتصاد اللبناني وخسارة للإيراني”، بحسب الاقتصادي د. روي بدارو. فـ”بناء على المعروض، من مصلحة لبنان شراء كل الفيول من إيران ونقل العملات النادرة من اقتصادها إلى اقتصادنا. فاذا باعت إيران أو ذراعها في لبنان طن المازوت بالسعر المحدد قبل رفع الدعم فسيتحملان خسارة تقدر بـ 8 ملايين دولار في الشحنة الأولى زنة 33 ألف طن. وهذه الخسارة ستكون ربحاً للاقتصاد اللبناني. ومن هنا كان أمين عام “حزب الله” واضحاً لجهة قدرته المحدودة على المضي قدماً بهذه العملية. وبان الهدف الأساسي ليس المتاجرة إنما مساعدة الجهات التي تقوم باعمال انسانية كالمستشفيات، والمدارس، ودور العجزة، والصليب الأحمر… وغيرها.
وبالتالي حصرها بالأعمال الخيرية لأسباب فقط تجميلية”. هذا من الناحية الاقتصادية الكلية الصرف، أما عملياً فان “الأزمة التي وصلها لبنان كانت النتيجة المباشرة للوجود الفارسي في لبنان، واستعمال لبنان كمنصة لمحاربة وتدريب عناصر يفتعلون المشاكل ويقومون باعمال الشغب بحق الدول العربية”، من وجهة نظر بدارو. و”للغاية، تم تشريع الحدود بين لبنان وسوريا أمام عمليات التهريب، والقبض “بيد مرخية” على المرافئ البحرية والجوية من أجل تسيير التهريب إلى الدول الأفريقية دخولاً وخروجاً.
هذه الاستراتيجية التي تعود أقله للعام 2003 منذ حرب العراق، تعززت أكثر بعد العام 2010. وقد كلفت لبنان أضعافاً مضاعفة سعر كلفة المازوت والنفط الايراني المدعوم حالياً”. ولو قدّر للبنان بحسب بدارو “الاستغناء عن هذه السياسة من خلال الاستراتيجية الدفاعية البديلة عن المقاومة الاسلامية، لكنا وفرنا على أنفسنا الكثير”. فالواقع الحالي يدفع بالأسواق المالية التجارية والمالية والعالمية الى تصنيف لبنان على أنه بلد غير حر أو ديمقراطي ومحكوم من مجموعات وليس من دولة قادرة، وهي لا تستستيغ لذلك العلاقة معه. وفي ما خص التطور الاخير المتمثل بتشكيل حكومة جديدة فلم ينعكس برأي بدارو “ايجاباً في وسائل الاعلام الغربية التي حافظت على موقفها من اعتبار الحكومة تابعة لـ”حزب الله”. ولعل استقدام المازوت الايراني “النظيف” على مرمى من نظرها خير دليل على هذا الافتراض.
التطلع بنظرة نقدية واسعة الى التطورات الأخيرة يظهر بوضوح أن “حزب الله” يحكم قبضته على كافة المفاصل بالتدرّج. وهو ينال دعم ومساندة شركائه لمحاولة إقصاء بقية اللاعبين في المجالات المالية والتجارية والخدماتية لـ”تفرغ الساحة له” بعد اضطلاعه وحيداً بقرار السلم الحرب.