Site icon IMLebanon

المكاسب الإيرانية من أزمات الشرق الأوسط

ليست تركيا اللاعب الإقليمي القوي الوحيد في الشرق الأوسط. ففي الميزان الإقليمي غير العربي للقوى هناك كفة ميزان أخرى هي إيران. وتمتد إيران بمسطحها الهائل على مساحة (1,648,000كلم2) وعدد سكان مماثل لتركيا (حوالى 71 مليون نفس). ولإيران أيضاً موقع استراتيجي مهم للغاية، فهي شريك في بحر قزوين وبلدانه الغنية بالنفط والغاز، وتطل بساحل طويل بمحاذاة الخليج العربي من عبدان شمالاً الى شاهبهار في الجنوب مروراً بمضيق هرمز الاستراتيجي. انها تشكل ما نسميه (le contrepoids) في ميزان القوى الإقليمي مقابل الثقل التركي. ولإيران في الشمال حدود مهمة مع أذربيجان وأرمينيا وتركيا، كما ان لها حدوداً واسعة مع العراق. وخلافاً للتوقعات فإنها ساندت أرمينيا المسيحية بوجه أذربيجان ذات الأغلبية الشيعية (75% من سكانها شيعة) وذلك في حرب ناغورني كاراباخ ابتداء من عام 1988.

تحاول إيران التملص من طابعها الآسيوي الطاغي، إذ أن المسطح الايراني هو امتداد طبيعي لسهوب أواسط آسيا، وفي غالبيتها دول إسلامية، لكن النفوذ الروسي ما زال قوياً فيها على الرغم عن انسلاخها عن الاتحاد السوفياتي ابتداء من عام 1990، كما ان طبيعة ونوعية اقتصادها في تنافس مع إيران عوضاً عن التكامل معها فهي تنتج البترول والغاز أيضاً. فمقابل 203 ملايين برميل سنوياً و130 مليار متر مكعب تنتجها إيران، فإن كازاخستان مثلاً تنتج 78 مليون برميل و30 مليار متر مكعب من الغاز. وبالرغم من سيطرة صحراء كارا-كوم عليها فإن تركمانستان تنتج 7 ملايين متر مكعب من الغاز، كذلك هي الحال بالنسبة لأوزبكستان التي تنتج 65 مليار متر مكعب من الغاز و5 ملايين برميل من البترول، لكنها محط انظار العالم بانتاجها 2 مليونين ونصف المليون طن من اليورانيوم.

بالاضافة للمذهب فإن الطابع المميز لجذور اللغة التركية والتقاليد الاجتماعية وصولاً الى الفولكلور، وقف حاجزاً بدوره أمام توغل النفوذ الإيراني في أواسط آسيا. وتضم إيران أقليات وازنة من الأذريين والأكراد واللورس والبالوخ والتركمان واليهود والعرب. والنظام التيوقراطي القمعي الإيراني يخفي في طياته تناقضات اجتماعية حادة. وقد شكل العراق بغالبيته الشيعية 53% وسوريا مع تحكم الأقلية العلوية (12%) بمقاليد الحكم والجيش، ولبنان حيث يبلغ الشيعة ثلث السكان مادة دسمة ومشجعة للاندفاع نحو المتوسط كتعويض عن الاخفاق في النزوع نحو الشرق. ولعله من غير المجدي هنا تكرار ما يعرفه القارئ عن أهمية النجف وكربلاء والكوفة والبصرة بالنسبة لشيعة العالم كعتبات مقدسة ومزارات في العراق ومقام السيدة زينب بالقرب من دمشق. كما اننا لسنا في معرض تكرار اسس النظام الاسلامي الإيراني القائم على عقيدة ولاية الفقيه والامامة الإيرانية المنزهة عن الأخطاء.

إن تراجع وانحسار المشروع القومي العربي بعد هزيمة حرب 1967 وحرب 1973 التحريكية التي أفرزت من رحمها اتجاهين متباينين: الأول صعود حركة المقاومة الفلسطينية (الرصاصة الأولى عام 1965) ونموها الواسع، وسيطرة العسكر على السلطة في كل من سوريا وليبيا والعراق، قد ولد من رحمه أزمات جديدة لم تعرفها المنطقة العربية من ذي قبل. فالأنظمة التوتالية قد تربعت في السلطة بدباباتها وأجهزتها القمعية وعشائريتها وعائليتها وبالتالي بفسادها في غالبية بلدان المنطقة. بل راحت تبرز الطائفية والمذهبية في مجتمعاتنا على حساب المشروع القومي. بل راح المشروع الديني السلفي والمذهبي يطاول الثورة الفلسطينية نفسها. 

فحركة «حماس» و«الجهاد الاسلامي» وكل المجموعات السلفية التي أحدثت شروخات وانشقاقات داخل المقاومة الفلسطينية كانت على حساب وحدة الصف الوطني الفلسطيني. فعلى حساب المقاومة الوطنية اللبنانية بعد استغلال خصوصية الوضع اللبناني أثناء الحرب الأهلية (1975 1990) برزت الفصائل الدينية والمذهبية بتشجيع ورعاية النظام السوري الأسدي وحليفه النظام الإيراني.

أحدث اغتيال الرئيس الشهيد رفيق الحريري (2005) انتفاضة شعبية عارمة في لبنان أدت الى انسحاب القوات السورية ووصول أغلبية مناهضة للسيطرة السورية الإيرانية على الوضع اللبناني. وفي آن معاً كانت إيران تحكم قبضتها على «حماس» عبر تدفق المساعدات بالمال والسلاح على قطاع غزة. راحت الأحداث في لبنان تأخذ منحى مذهبياً خطيراً بين المسلمين أنفسهم على خلفية الموقف من النظام السوري وتدخله في شؤون لبنان بذريعة الممانعة ودعم المقاومة الخ… فكان لا بد والحالة هذه من الاندفاع في مغامرة عسكرية (حرب 2006) مع إسرائيل حيث كانت محصلتها احتلال وسط العاصمة بيروت وشل الحياة الاقتصادية في البلاد، وما لبث أن تبعها عام 2008 اجتياح لبيروت الغربية بل طاولت الأحداث الجبل وصيدا، والبلاد بلا رئيس والبرلمان غير قادر على الانعقاد. أدى اتفاق الدوحة الى انتخاب الرئيس ميشال سليمان ووصول حكومة وطنية وفاقية برئاسة سعد الحريري.

تظهر الوقائع الميدانية على طول امتداد الرقعة العربية في منطقتنا بصورة لا يرقى اليها الشك.. تعاظم النفوذ الإيراني واندفاع طهران المحموم نحو المتوسط أي اننا أمام مرحلة تاريخية جديدة:

على صعيد العراق: مع انسحاب جيوش قوى التحالف الدولي الواحد منها تلو الآخر وتعرض الجيش الأميركي نفسه الى ضربات موجعة، وبروز تنظيم القاعدة هناك ووصول باراك أوباما الى السلطة واعتزامها العلني سحب القوات الأميركية من البلاد وتكليف نور المالكي الإيراني الولاء تشكيل الحكومة، رأينا العراق يتحول تدريجياً الى محمية إيرانية. هذا في الوقت الذي راجت فيه العمليات الانتحارية والاعتداءات على المسيحيين وتتابع العبوات التفجيرية بصورة يومية. هذا وسط سياسة مذهبية رعناء رعاها المالكي بحق السنة ومناطقهم (الاقصاء والتهميش والاهمال والملاحقة الخ…)، لا بل تحوم حوله الشبهات في المساهمة بتأسيس «داعش» وإطلاقها وشريكه بشار الأسد.

أما في سوريا فقد اندلعت احداث درعا المطلبية التي سرعان ما تحولت ابتداء من نيسان 2011 الى مواجهة المتظاهرين العزل بالقمع الدموي الوحشي، وما لبثت ان امتدت الى حمص وحماه… وبرزت ظواهر دلت على تهافت نظام بشار الأسد وسقوطه الوشيك.

(الجيش السوري الحر، استقالات وهروب المسؤولين، مجازر حمص وحماه وادلب، ثم حلب، فظائع الأجهزة والشبيحة،…). هب النظام الإيراني لدعم النظام الأسدي بكل ما لديه من أسلحة وذخائر ومعدات. بل هبت روسيا لتزويد الأسد بالطائرات والدبابات المتطورة والصواريخ والمناظير الليلية الرؤيا والتجهيزات الالكترونية، وبالدعم السياسي والديبلوماسي في المحافل الدولية ومجلس الأمن. وأمام الخطر المحدق بدأت فرق الحرس الثوري الإيراني والمستشارين والفصائل الشيعية العراقية تتدفق، وكان لاقاها الى هناك حزب الله اللبناني. ولم يبالِ النظام الإيراني بالمنحى المذهبي للحرب في سوريا، تماماً كما فعل في العراق. وأصبحت خطوط التمويل البرية مؤمنة من إيران فالعراق الى سوريا ولبنان. 

وبدا ان المالكي نفسه ضالع في التورط بالحرب في سوريا، خاصة مع بدايات بروز تنظيم «دولة الاسلام في العراق والشام» حيث بدأت تتحدث المعلومات عن أن العديد ممن فروا من سجن «أبوغريب» انضموا إليه. وكانت الذروة في جرائم النظام الأسدي استخدامه السلاح الكيماوي في آب 2013 في الغوطة الشرقية… لا بل تمادى أكثر أنه في الوقت الذي يسلم فيه جزءاً من سلاحه الكيماوي إذ تقطع المؤسسات الدولية الرصينة عن استخدامه اياه 14 مرة. وحتى اللحظة ناهز عدد القتلى في سوريا 200 ألف والمفقودين بعشرات الألوف والنازحين حوالى 5 ملايين.

كان النظام الإيراني يعلم حق العلم مدى تورط الأسد والمالكي في اطلاق «داعش»، الا ان الصفقة الإيرانية مع الغرب بما تشتمل من اتفاق حول نشاطها النووي وتخفيف العقوبات كانت تصطدم بإصراره على بقاء الأسد في السلطة ولو على رقعة محدودة من سوريا لأن التواصل اللوجستي بين طهران وحزب الله مسألة غير قابلة للتفاوض. تماماً كما ان انسحاب حزب الله من سوريا غير قابل للبحث. وإنه لمن المثير حقاً انه في الوقت الذي تشكل التحالف الدولي للقصف الجوي لضرب مواقع الداعشيين في العراق ثم في سوريا لم تتحرك طهران قط للمساهمة في القتال الذي يدور عند حدودها الشمالية الغربية. لا بل تشير المعلومات ان اتصالات إيرانية أميركية أفضت الى ضمانات أعطيت للأسد بالإبقاء عليه في سدة الرئاسة مقابل إطلاق يد التحالف في الإغارة على دير الزور والرقة وكوباني، رئيس مثالي أليس كذلك؟

الأسوأ من كل ذلك كان الانقلاب الحوثي على السلطة في صنعاء واحتلال مراكزها العسكرية ومرافقها الحيوية، بل التوغل نحو الحديدة وباب المندب عبر جزيرة بريم. فما دامت الفرصة سانحة وتروج وتزدهر وتبرم الصفقات في المنطقة العربية فلا بأس من الاستيلاء على اليمن البوابة الجنوبية للبحر الأحمر. فهل السيطرة الإيرانية على اليمن مقابل انحسار نفوذها في العراق ومجيء حيدر عبادي الذي يتزعم اتجاه «اعادة العراق الى الحاضنة العربية»؟

إن المراقب المدقق للمشهد في الشرق الأوسط يلاحظ دون شك ان «أزمة داعش» قد كشفت أموراً كثيرة كلها مرتبطة بطبيعة الأنظمة المعنية بالأزمة. فأن تطمح تركيا لدخول الاتحاد الأوروبي وتصر على شروطها الخاصة بها للتدخل العسكري مسألة مفروغ منها. وأن يجري استخدام الأكراد وقوداً للحرب ضد «داعش» يقودنا الى الظن ان ذلك له أثمان تحاول «أنقرة» منذ الآن التفاوض مع الغرب حولها، لأن وحدة أراضي الأناضول لن تقبل تركيا المساس بها. إلا ان الأكثر إثارة للقلق هو الموقف الإيراني. فما هي حدود طموحات طهران الإقليمية بل أطماعها التوسعية؟ فلبنان مهدد بالاقتتال المذهبي الداخلي، وسوريا مقطعة الأوصال تخضع مناطقها الشرقية والشمالية الشرقية لسلطة داعش، والأردن خائف من أن تصل عدوى الداعشيين وزيارة عبادي للأردن وتصريحات المسؤولين الأردنيين هي رسائل للداخل الأردني لمن يريد أن يسمع، ومصر بصدد إنشاء منطقة عازلة شمالي سيناء لأن حماس والجهاد الاسلامي لم يبرّآ قط من دائرة الشبهات كمصدر للارهاب، كما ان السودان ليس سعيداً جداً برؤية الإيرانيين عند باب المندب. أما إسرائيل فتملك ضمانات دولية بشأن حرية الملاحة في البحر الأحمر. فما دامت المعارك على أرضنا والغارات الجوية في أجوائنا وأكلاف الحرب من أموالنا، فالأميركيون والغرب عموماً ليسوا في عجلة من أمرهم، والحرب مستمرة…