Site icon IMLebanon

ود “ديموقراطي”ـ إيراني له أسبابه

 

 

هي المرة التاسعة التي يعود فيها وزير الخارجية الأميركي انطوني بلينكن الى المنطقة منذ إندلاع الحرب في غزة. وعلى رغم من أن هذه الزيارة التاسعة تترافق مع رفع مستوى الضغوط الأميركية على الحكومة الإسرائيلية الى حدود عالية، إلا أن لا شيء يوحي بأن الأمور ذاهبة حتما الى اتفاق على وقف إطلاق النار.

ففي الوقت الذي بدأت فيه الجولات التفاوضية كانت الطائرات الإسرائيلية ترتكب مجزرتين متتاليتين. واحدة في جنوب لبنان مع حصيلة من عشرة شهداء، وثانية في غزة مع حصيلة أخرى وصلت الى 18 شهيدا. وهي مجازر تعكس الرغبة في رفع مستوى الحماوة الميدانية عبر إثارة حزب الله وحركة “حماس” وبالتالي إجهاض مساعي تحقيق وقف إطلاق النار.

ولا تنحصر القراءة السلبية للنيات الإسرائيلية في هاتين الإشارتين فقط. فمستشار الأمن القومي الأميركي خلال ولاية دونالد ترامب، والمقصود هنا جون بولتن والمعروف عنه صداقته لبنيامين نتنياهو، كان يبدي في الوقت نفسه تشكيكه في التوصل الى نتائج إيجابية للمفاوضات الدائرة لتحقيق وقف إطلاق النار. لا بل أنه قال بوضوح أن إسرائيل ما تزال بعيدة عن هذا القرار، رغم أن مسؤولين أميركيين كبارا كانوا يتحدثون عن إتفاق قريب، ومع الإشارة الى أن الخبر الرسمي للزيارة التاسعة لبلينكن لم يلحظ كما درج تحديد مدة هذه الزيارة، ما أوحى أنها ستكون مفتوحة حتى تحقيق النتائج المطلوبة.

 

لكن ثمة اقتناع بات موجودا لدى المراقبين بأن نتنياهو يسعى الى شراء الوقت ليس إلا، كونه مؤمن بأن “الإنتصار الكامل” الذي تحدث عنه مرارا وتكرارا لم يتحقق بعد، وأن هنالك مكاسب مهمة لا بد من تحقيقها من خلال ما يعتبره إستغلال الظرف التاريخي المتاح وذلك عبر استمرار القتال. وما يضاعف من احتمال عدم تجاوب نتنياهو أنه يعرف جيدا أن هذا “الظرف التاريخي” أمامه بضعة أشهر إضافية قبل أن تنتهي صلاحيته، والمقصود هنا موعد دخول الرئيس الأميركي الجديد الى البيت الأبيض. فحتى ترامب كشف أنه نصح نتنياهو عندما التقاه الشهر الماضي بأن عليه أن يحقق انتصاره بسرعة لأن القتل يجب أن يتوقف في غزة. والواضح أنه كان يقول أنه يريد أن يبدأ ولايته في حال فوزه بلا دماء في غزة أو لبنان.

 

وردا على سؤال حول ما إذا كان شجع نتنياهو على عدم الموافقة على وقف إطلاق النار مع “حماس”، أجاب ترامب “أن نتنياهو يعرف ما يفعل”.

 

وعلى رغم من ذلك ما على بايدن سوى رفع مستوى الضغط عله ينجح في لي ذراع نتنياهو وانتزاع اتفاق منه سيمنحه ورقة مهمة في نهاية حياته السياسية.

 

وكان واضحا أن رفع مستوى الضغوط الأميركية واكبته عواصم غربية وفي الوقت نفسه قيادة الجيش الاسرائيلي التي أعلنت أن العمليات القتالية داخل قطاع غزة قد انتهت فعليا، ولا حاجة في الوقت الحالي لمزيد من العمليات الواسعة، فالوقت حان للإتفاق.

 

وهذه الأجواء تتطابق مع كلام موفد الرئيس الأميركي آموس هوكشتاين في جلساته البعيدة عن الإعلام خلال وجوده في بيروت والذي اعتبر تفاؤليا، من أن ضغوطا كبيرة ستمارسها واشنطن لتثبيت قرار وقف إطلاق النار في غزة. لكن اللبنانيين بالغوا في استنتاجاتهم التفاؤلية كون هوكشتاين قال لاحقا أنه يخشى أن تطول الحرب وهو ما يفتح أبواب المخاطر أكثر على لبنان. ومن هنا كانت “نصيحته” أن يتجاوز حزب الله ما جرى وأن لا ينزلق الى الرد على إسرائيل. لكن أكثر ما لفت في كلام هوكشتاين خلال جلساته المغلقة إعتباره أن إيران لا تعمل على مجاراة التصعيد الإسرائيلي، بل إنها تلزم نفسها بضوابط محددة.

وهذه الإشارة الإيجابية والتي تعكس مرونة أميركية تجاه إيران لا تعني أبدا أن انزلاق الأمور الى التصعيد الذي يتمناه نتنياهو لن يؤدي الى دعم القوات الأميركية لإسرائيل في ساحات القتال. ولأجل ذلك يضغط البيت الأبيض لتجنب الإنزلاق الى المواجهة لكي لا يصل الى واقع يؤذي مصالحه، في وقت يسعى فيه الثعلب نتنياهو الى أخذ الأمور في اتجاه المواجهة، مرة لتحقيق نقاط إضافية ضد نفوذ طهران، ومرة ثانية لضرب الخط المفتوح بين الحزب الديموقراطي وطهران وهو ما يخدم خصوم الديموقراطيين في الداخل الأميركي.

 

وليس بعيدا عن هذا السياق تضمن خطاب الرئيس الإيراني الجديد مسعود بزشكيان والذي بات واضحا أو وصوله جاء بمباركة خامنئي وغطائه، تحية إيجابية في اتجاه واشنطن ولو من بعيد. فهو في خطابه وضع مسؤولية الإستياء الداخلي ليس على السياسة الأميركية، “فلو كنا تعاملنا مع الناس بنزاهة فإنهم كانوا سيقفون معنا بقوة”. وهذا الكلام يعاكس الخطابات السابقة التي كانت ترمي مسؤولية تدهور الأوضاع على واشنطن وحصارها لإيران، وتغفل المسؤوليات الداخلية. فهو قال في وضوح “أن الشعب الإيراني يشكو منا، فنحن المقصرون وليس واشنطن”. طبعا هذا لم يحجب قوله في خطابه أن بلاده تتعرض لتهديدات خارجية وفي مقدمها الولايات المتحدة والعقوبات المفروضة عليها.

وخلافا لبعض القراءات أو حتى للمواقف المعلنة، فإن نشر الإعلام الحربي لحزب الله لشريط ” منشأة عماد ـ 4″ إنما يمكن إدراجه تحت عدة تفسيرات. منها ما له علاقة بمخاطبة البيئة الحاضنة لحزب الله بعد كل ما حصل. ومنها ما له علاقة بالرد على استخدام إسرائيل قبل أيام معدودة وللمرة الأولى لثلاث قذائف زلزالية في الجنوب والقادرة على إختراق باطن الأرض. ومنها أيضا ما جرى تفسيره على أنه رسالة قوة لتحذير من أي رد مقابل في حال توجيه الحزب لرده الإنتقامي على اغتيال قائده العسكري فؤاد شكر.

 

أما لماذا هذا “التناغم” بين الحزب الديموقراطي الأميركي وطهران وهو ما كان أثار سابقا عواصم الخليج وإسرائيل وأجنحة قوية داخل مراكز صنع القرار الأميركي، فهنالك من يضعه في إطار الصورة العريضة للنزاع الدولي الكبير الحاصل وقدرة إيران على تأمين مصالح أميركية، وهو ما قد يكون قد قصده بزشكيان في كلمته عندما عدد نقاط قوة إيران واضعا في طليعتها موقعها الجيوسياسي وثرواتها الكبيرة.

 

فوسط النزاع الدولي الكبير الذي تخوضه واشنطن مع كل من بكين وموسكو، برزت منطقة آسيا الوسطى وأهميتها، خصوصا بعد إشعال منطقة الشرق الأوسط واغراقها وصولا الى الجزء الخليجي بالعنف والمواجهات ما أدى الى تهديد استقرارها والذي طاول الممرات المائية وقناة السويس، وبالتالي وضع كل خطط المشاريع لربط الصين أو منافستها الهند في الأسواق الأوروبية من خلال شاطىء البحر المتوسط.

 

وفي آسيا الوسطى ثلاثة لاعبين كبار: روسيا والتي تعتمد على هذه المنطقة كممر للتهرب من العقوبات وللتصدير والنقل. والصين والتي تركز جهودها لتأمين موارد النفط “المهرب” أو ما بات يعرف بالطاقة الرخيصة السعر، والتحوط لاحتمالات فصلها إقتصاديا عن الأسواق الأوروبية. وإيران ولو بدرجة أقل ولكنها قادرة على التأثير من خلال الإستفادة من موقعها الجغرافي الذي يفتح لها أبواب التعاون مع جيرانها من خلال علاقاتها الثقافية، ما يسمح لها بتطوير ممرات النقل الإستراتيجية بما يعزز حضورها ونفوذها ويخفف من وطأة عزلتها الإقتصادية. وهذا ما يؤدي الى نشوء تعاون في مجالاة الطاقة وحتى الأمن والتجارة. لكن هنالك أيضا لاعب غير منظور لكنه مؤثر ومؤذ والمقصود هنا تنظيم داعش.

 

وفي اختصار شديد هنالك تناقض جوهري في المصالح بين الدول الثلاث في آسيا الوسطى على مستوى الطاقة. فالتعاون في هذا المضمار بين روسيا والصين يحصل على حساب مصلحة إيران. ومن هنا ما يطرح من فكرة تقضي بالمساعدة الأميركية لكي تكون الهند هي السوق البديلة للنفط والغاز الإيرانيين. مع الإشارة الى التعويل الأميركي على ان تلعب الهند دور المنافس المباشر والقطب المواجه للصين. أضف الى ذلك أن هنالك من بدأ يقتنع في واشنطن بأن النفوذ الإقتصادي والسياسي المحدود لإيران في آسيا الوسطى الى جانب مشكلاتها الداخلية يجعلها أقل تهديدا للمصالح الغربية على المستوى الإقليمي. فلقد أصبح الغاز الروسي مصدرا رئيسيا للطاقة الرخيصة بالنسبة الى الصين، وهذا ما بحد من دور إيران في سوق الطاقة.

 

ومبادرة “الحزام والطريق” الصينية هدفت في شكل أساسي الى توسيع الممر الذي يربط المعامل الصينية بالأسواق الأوروبية عبر آسيا الوسطى وإيران، وهو ما يعني هنا تجاوز روسيا، وهو ما يؤدي أيضا الى الإستغناء عن الممرات البحرية وفي طليعتها قناة السويس.

 

وفي اختصار تسعى واشنطن لاستغلال التناقضات الجوهرية الحاصلة لتوظيفها في إطار سياستها الكبرى وحماية مصالحها. وهذا ما يستوجب الحرص على الإستقرار الداخلي لإيران طالما أن المسافة باتت بعيدة بين السلطة الحاكمة والشارع ما بجعل القرارالإيراني أكثر ليونة ومرونة. وهذا ما يعتقده البعض في واشنطن أنه الوضعية الأفضل لنسج تفاهمات غير علنية أو رسمية تطاول مصالح البلدين.

 

لكن هذا لا ينسحب على منطقة شرق البحر المتوسط لناحية الإقرار بنفوذ إيراني حاسم ومؤثر، حيث هنالك عائقين أساسيين لا يمكن تجاوزهما أميركيا، وهما:

 

ـ أولا، الرفض الإسرائيلي الحاسم والذي يشكل نقطة تقاطع بين جميع القوى السياسية في إسرائيل.

ـ الثاني أن تكريس أي نفوذ إيراني شرعي في هذه المنطقة سيمنحها إذا لم يكن اليوم، لكن بالتأكيد غدا، موطىء قوة على الممر البحري الإستراتيجي والمقصود هنا قناة السويس. وهذا ما يتعارض بمقدار كبير مع المصلحة الحيوية الأميركية وهو ما يظهر جليا مع العمليات البحرية للحوثيين في بحر الخليج. أضف الى ذلك الحضور البحري للأسطول الروسي في سوريا وليبيا والجزائر ما يضاعف من عوامل القلق والخطر.

والأهم أن في عالم السياسة والمصالح كل الإحتمالات واردة ما يستوجب التحوط منها مسبقا.