التدخل الإيراني مرفوض من الشعب اللبناني؛ هذا الرفض المدوّي أعلنه بالأمس الرئيس سعد الحريري من واشنطن، وأمام وزير الخارجيّة الأميركي جون كيري، الذي تعلّم اللبنانيّون وسواهم من العرب أن لا ينتظروا منه ولا من رئيسه باراك أوباما أيّ شيء في شؤون المنطقة وفي الموضوع الإيراني، قد يكون الوصف الأدقّ هو أنّ ما تفعله إيران في لبنان هو احتلالٌ مقنّعٌ عبر سيطرة ذراعها العسكري «حزب الله» على مفاصل الدولة، وتعطيله الرئاسات الثلاث، وتدخّله في كلّ قضايا المنطقة من العراق إلى سوريا والبحرين واليمن، وسيكون من السذاجة بمكان أن نصدّق أنّ هذه السيطرة الإيرانيّة هي حقبة امتدت ثلاثة عقود من الزمن، لأنها بدأت قبل ذلك بكثير، بل هي قائمة منذ القرن السادس عشر، وبتعاون وثيق منذ إسماعيل الصفوي وعلي بن حسين العاملي الشهير في الأوساط الشيعية باسم المحقق الكركي أو المحقق الثاني حتى اليوم، وإن اختلف الأشخاص واختلفت المسميّات.
ولمرّة واحدة علينا تسليط الضوء على هذه الصلة التي أسّست لما يُسمّى بـ»ولاية الفقيه»، وسيبدو واضحاً أن الكركي الذي حمل في ذلك الوقت لقب «نائب الإمام» الذي أعاد إحياءه لاحقاً الخميني وحافظ عليه بعده الخامنئي، وهو موضع تساؤل حول ماذا سيحلّ بهذا المنصب بوفاة الخامنئي والاضطرابات التي تنتظر إيران بسبب الصراع على هذا الموقع.. وهنا لا بُدّ لنا من الاعتراف بأن أصل بلاء لبنان ومشروع «ولاية الفقيه» خرج من عندنا من لبنان، وعاد إلينا عام 1979 مع عودة الخميني برعاية دولية إلى إيران، ولطالما تباهى بعض الأصدقاء الشيعة أمامنا في نقاشاتنا الكبرى حول هذا الأمر وافتخروا بأنّ «مخترع نظريّة ولاية الفقيه» هو اللبناني المحقّق الكركي…
لن ينتهي الاحتلال الإيراني للبنان ـ وبصدق وشفافيّة نقولها ـ إلا متى تشكّلت قوّة عربيّة مشتركة من الجيوش العربيّة وهو الأمر الذي كان موضع تشاور في القاهرة العاصمة المصرية يوم أمس بين رؤساء أركان الجيوش العربية، لو أقدم العرب على هذه الخطوة يوم اجتاح صدام حسين العراق لما وصلنا اليوم إلى هذا الواقع، ومتى ما تشكّلت هذه القوّة، سيكون عليها أن توجّه ضربة قاصمة للأفعى السامّة القابعة في دمشق، فبمحاصرة نظام بشار الأسد وضربه وحماية الشعب السوري من براميله المتفجرة ومن إجرامه وإجرام حزب الله، سينتهي حزب الله تلقائياً ويتلاشى كقوة احتلال إيرانية، ويموت المشروع الإيراني الصفوي ونشهد نهاية زعزعة إيران لاستقرار المنطقة وسينفضّ «هذا المولد الفارسي» ونرتاح وترتاح المنطقة.
التجربة الإيرانية مع حزب الله هي تجربة متكررة ومستعادة منذ القرن السادس عشر، ونظرة عامّة ـ لن نغرق فيها ـ على هذا التاريخ منذ كان المحقّق الكركي أول فقيه من جبل عامل يستجيب لدعوة الصفويين، بعدما تمّ رفضها من آخرين قبله.. التقى الكركي بالشاه إسماعيل الصفوي في «هرات»، وطلب منه الأخير أن ينتقل معه إلى إيران ليتولى شؤون الدولة بموجب المذهب الشيعي، فانتقل الكركي إلى إيران بصحبة شاهها واستغل هذه الفرصة أفضل استغلال، ونشط في تكريس ونشر فقه التشيّع في إيران «السُنيّة» في الأصل، وتولّى تعيين العلماء وأئمة الجماعة والقضاة في أطراف البلاد بصورة منظمة، فكان أول من نظّم ارتباط العلماء بالمرجعية، وكذلك نظّم جباية الحقوق الشرعية بصورة ميدانية وواسعة في الدولة الصفوية، لاحقاً استطاع المحقق الكركي أن يقنع مجموعه أصدقائه وتلاميذه في جبل عامل بالهجرة إلى إيران والإفادة من هذه الفرصة السانحة لنشر وتكريس المذهب الشيعي وبسط نفوذ الفقهاء في هذه الدولة الفتية.
ويبدو أنّ المحقق الكركي استطاع بسط نفوذ المؤسسة الفقهية إلى حد بعيد، فأثار حفيظة بلاط الشاه الأمر الذي أدى إلى برود في علاقته ببعض أجنحة البلاط، فاختار أن يغادر إيران إلى العراق، ويعود إلى النجف حيث مكث قرابة ست سنوات توفي خلالها الشاه إسماعيل وخلف على الملك ابنه طهماسب، الذي طلب من المحقق العودة إلى إيران لتسلم منصب شيخ الإسلام في عاصمة ملكه أصفهان. فاستجاب المحقق الكركي لدعوته ورجع إلى أصفهان عاصمة الصفويين بصفته «نائب الإمام»، وهذه الصفة تمنحه بطبيعة الحال الولاية المطلقة في شؤون النظام والأمة وتجعل مشروعية النظام تابعة لإذن الفقيه، وأقر النظام الصفوي للمحقق بهذه الولاية المطلقة النائبة عن ولاية الإمام، وصرح له الملك «بأن معزول الشيخ لا يستخدم ومنصوبه لا يعزل»…
نعم، التدخّل أو الاحتلال الإيراني للبنان مرفوض من الشعب اللبناني، ولكن يحقّ لنا أن نتساءل: ما الذي فعلناه حتى الآن لإنقاذ لبنان من القبضة الإيرانيّة، والإجابة: لا شيء، بل أبعد من هذه الـ»لا شيء» لقد تخاذل السياسيّون في لبنان بفعل غيبوبة الحكام العرب طوال العقود الماضية ـ حتى منّ الله على المنطقة بالملك سلمان، والرئيس عبد الفتاح السيسي ـ فاستسلموا للثلث المعطّل، و»الوزير الوديعة» و»الحكومات المفروضة تحت عنوان التوافق أو الوحدة الوطنيّة»، حتى انتهينا إلى مقولة جديدة هي «ربط النزاع»، وحتى الساعة لا أمل للبنان في الخلاص إلا متى تحققت فعلياً القوة العربيّة المشتركة وتمكنت من قطع الأذرع الأخطبوطيّة الإيرانية في سوريا أولاً ليرتاح لبنان وفي العراق والبحرين واليمن، فأخوف ما نخافه من إعلان انتهاء عاصفة الحزم، هو «الغدر الحوثي ـ الإيراني»، لذا نذكّر أصحاب الشأن في الحفاظ على العالم العربي واسترجاعه من البراثن الإيرانيّة قول الله تعالى: {قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاء مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: 118].