كشفت السنة 2019 التي تشرف على نهايتها، بداية تراجع سطوة الميليشيات المذهبية التي انشأتها ايران والتي كانت تعتقد انّها السلاح الأساسي في الترويج لمشروعها التوسّعي في المنطقة كلّها، خصوصا حيث هناك وجود عربي، بدءا بسوريا والعراق ولبنان… وصولا الى اليمن، مرورا في طبيعة الحال بالبحرين وكلّ بلد عربي قريب او بعيد.
ما يكشف بداية التراجع يتمثّل في تلك الهجمة الشرسة التي تشنّها ايران عبر ادواتها المختلفة في العراق ولبنان وسوريا واليمن من اجل تأكيد انّ مشروعها لم يتعرّض لنكسة حقيقية وان ثمّة مجالا لاستمراره في المدى الطويل. لا تدرك ايران، التي هي منذ العام 1979، في حال هروب مستمرة الى خارج حدودها انّ مشروعها عاجز عن ان يوفّر نموذجا ناجحا في ايّ مجال من المجالات نظرا الى انّ ليس في استطاعته تقديم أي شيء، لا سياسيا ولا اقتصاديا ولا حضاريا ولا تربويا ولا اجتماعيا. كلّ ما يستطيع تقديمه هو البؤس والتخلّف ونشر الفقر، فضلا عن اثارة الغرائز المذهبية في منطقة في غنى عن مثل هذا النوع من الممارسات.
تبذل ايران كلّ ما تستطيع كي يبقى العراق على حاله، أي في ظل الوصاية الايرانية. هذا ما يفسّر التهديدات التي وجّهها الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الايراني لشخصيات عراقية تجرّأت على الاعتراض على الاملاءات الايرانية، بمن في ذلك مقتدى الصدر. قبل اسابع قليلة وضع مقتدى الصدر نفسه في تصرُّف «المرشد» علي خامنئي عندما جلس جلسة التلميذ المطيع في مجلسه في طهران. يبدو ان ذلك ليس كافيا. ما هو مطلوب من مقتدى الصدر ان ينسى انّه عراقي والقبول بانّه مجرّد جندي آخر في جيش الوليّ الفقيه.
ليس ما تقوم به ايران في العراق او سوريا او لبنان سوى دليل ضعف. انّه نتيجة الفشل في إيجاد نظام اقتصادي فعال قابل للحياة في المدى الطويل. لهذا السبب، نرى حاليا ايران تسعى الى تأكيد انّها لن تتراجع لا في سوريا ولا في العراق ولا في لبنان ولا في اليمن؟ ففي سوريا، على سبيل المثال، هناك توسّع إيراني اكيد وصولا الى مشارف حلب، لكنّ القرار السياسي السوري صار روسيا اكثر مما هو إيراني في وقت بدأت تطرح أسئلة في موسكو عن جدوى وضع روسيا نفسها في خدمة مشروع إيراني لا مستقبل له. يحصل ذلك في حين ان المطلوب روسيا هو استخدام سوريا ورقة في لعبة التجاذبات بين موسكو وواشنطن التي انسحبت عسكريا من الشمال السوري من دون ان تنسحب منه.
اين انكشف المشروع الايراني؟ الجواب، بكلّ بساطة انّه انكشف بعد حصول التغيير الاميركي في عهد دونالد ترامب. هناك للمرّة الاولى إدارة تعرف تماما ما هو النظام الايراني وتتعاطى معه بطريقة مختلفة. لعلّ اهم ما يحدث حاليا هو وجود مفوضات أميركية – إيرانية سرّية مباشرة وغير مباشرة. بعد كلّ جولة مفاوضات تلجأ الإدارة الاميركية الى دفعة عقوبات جديدة على ايران او على أدوات إيرانية في العراق ولبنان. هذا ما يميّز الإدارة الحالية عن الإدارات السابقة، اقلّه الى الآن. هناك شروط أميركية لا مفرّ لإيران من الرضوخ لها. هذه الشروط واضحة ومنطقية. فالمشكلة لم تكن يوما في الملفّ النووي الايراني، كما كان يعتقد باراك أوباما والمحيطون به. المشكلة في سلوك ايران على الصعيد الإقليمي. هل هي دولة طبيعية ام لا… امّ انّها قوّة إقليمية تظن ان في استطاعتها لعب دور خارج حدودها وجعل دول عربية معيّنة مجرد جرم يدور في فلكها؟
الى ما قبل فترة قريبة، كان الاعتقاد السائد على الصعيدين الإقليمي والدولي، ان لا مجال لوقف الاندفاعة الايرانية، خصوصا بعدما سلّمت إدارة جورج بوش الابن العراق على صحن من فضّة الى «الجمهورية الإسلامية» في العام 2003 وبعدما اعتقدت طهران ان في استطاعتها التلاعب بايّ إدارة أميركية واستخدامها في خدمة مشروعها. ليس تمرير الإدارة الاميركية لاغتيال رفيق الحريري في شباط – فبراير 2005 وحلول ايران مكان الوصيّ السوري على لبنان سوى دليل كانت طهران في حاجة اليه كي تترسّخ لديها قناعة بان في استطاعتها التعاطي مع الإدارات الاميركية المختلفة واحتواء ردود افعالها بما يخدم مصالحها.
لا شكّ ان ايران ستحاول الصمود في وجه العقوبات الاميركية التي يبدو انّها اثرت كثيرا عليها وجعلتها تلجأ الى مزيد من العدائية، خصوصا في العراق ولبنان وداخل ايران نفسها حيث احتاج الامر الى ما يزيد على ثلاثمئة قتيل لاخماد الانتفاضة الشعبية الأخيرة، وهي انتفاضة قابلة لان تتجدّد في كلّ لحظة في غير محافظة إيرانية.
يبدو ان الرياح تخدم الإدارة الاميركية في وقت ليس ما يشير الى ان دونالد ترامب سيخسر انتخابات تشرين الثاني – نوفمبر 2020 وذلك على الرغم من كلّ الصعوبات الداخلية التي يواجهها في الكونغرس، بما في ذلك سعي الديموقراطيين الذين يسيطرون على مجلس النواب الى عزله.
لا يزال دونالد ترامب في موقع قويّ الى اشعار آخر في وقت هناك رهان إيراني على تغيير في اميركا في خريف 2020. لا تزال ايران تراهن على الديموقراطيين وعلى انّهم سيعودون الى المربّع الاوّل، أي الى قناعة فحواها انّ الملف النووي الايراني يختزل كلّ مشاكل المنطقة وازماتها وانّه يكفي التمسك بالاتفاق الموقّع صيف العام 2015 كي تنصرف طهران مجددا الى هوايتها المفضلة، أي الى لعب دور القوة الإقليمية المهيمنة التي تمارس السلطة في هذا البلد العربي او ذاك وتبتز اميركا وأوروبا في الوقت ذاته.
لا تدري ايران ان هناك صفحة طويت. هذه الصفحة هي صفحة ميليشياتها وذلك عاد ترامب الى البيت الأبيض ام لم يعد. لا يعود طيّ الصفحة الى ان المشروع الايراني فشل فشل ذريعا لاسباب اقتصادية اوّلا وأخيرا فحسب، بل يعود أيضا الى ان على ايران عاجلا ام آجلا الاهتمام بالايرانيين وليس بتهديد مقتدى الصدر او بالاتيان بحسّان دياب ليكون رئيسا لمجلس الوزراء في لبنان…
في كلّ الأحوال، سيتأكد في السنة 2020 ان المشروع الايراني لا يمكن الّا ان يتراجع، لا لشيء سوى لانّه مشروع مصطنع. من اين ستأتي ايران بتمويل لهذا المشروع في وقت صار لبنان بلدا مفلسا وفي وقت أصبحت مرفوضة من معظم الشعب العراقي، من الشيعة قبل السنّة. فما تبيّن في نهاية المطاف ان سلاح العقوبات الذي في أساسه الدولار ناجع اكثر بكثير من أي ضربة عسكرية توجّه هنا او هناك او هنالك.