الصورة الإيرانية التي وُزّعَت ظُهْرَ الثلاثاء ويبدو فيها مرشد الجمهورية الإمام الخامنئي مرتدياً كفَنَه وداخلاً إلى مقام الإمام الرضا، عبّرَت عن إن إيران ذاهبة إلى الرد على إسرائيل. وبعدها بدأت الأخبار الصحافية ترِدُ عن قرب ضربة إيرانية. غير أن التردّد السابق على الضربة كان يشوّش على مصداقية ما قد تأتي به إيران. الجلَبة الإعلامية، وتصاريح المسؤولين الأميركيين وَشَت بأن حدثاً كبيراً سيحصل. وقد حصل.
كانت إيران وجهاً لوجه أمام فقدان المصداقية. وكان السّجال في داخلها يُحيّر القرار بين البقاء في نطاق الشعارات أو العبور إلى تنفيذ التهديدات التي لطالما أُطلِقت منها تجاه إسرائيل. وفي لحظةٍ كانت متأخّرة نسبياً دخلت المعركة، دفاعاً عن نفسها أولاً، ودفاعاً عن «محور» كادت صورته تتهشّم بوقوفها «على الحياد».
والضربة الإيرانية سبَقَها اعتراف رئيسها بوزشكيان بأن المسؤولين تعرّضوا لخديعة أميركية حين تدخلت ألولايات المتّحدة معهم لعدم الرد على اغتيال إسماعيل هنية ربطاً بوعدِ أن أميركا ستضغط فوراً لفرض وقف إطلاق النار في غزّة. لكن ذلك لم يحصل وبات وجه إيران أسْوَدَ أمام نفسها وأمام العالَم، وباتت في موقف سيّئ جداً. وفي خضمّ كل هذا يبدو أنها كانت تستعدّ.
رؤية الصواريخ بالمئات تنزل على مدن إسرائيل كانت الحد الأدنى الذي يقبل به من آمن بأن إيران لن تترك حلفائها، وجعلَته الاستكانة الإيرانية منذ استشهاد إسماعيل هنية على أرضها وفي ضيافتها، يشعر بأنها تراجعت وتريد إمرارَ الوقت، وستتجاوَز الموضوع. وكتبنا ذلك بعدما لاحظنا ارتباكاً إيرانياً حتى في اغتيال السيّد حسن نصرلله وكيفية الردّ عليه، فضلاً عن أن بعض الإشارات والمفردات التي استُخدِمت على ألْسِنة المسؤولين الإيرانييّن كانت قاسية على جمهور السيّد الشهيد. وأقسى كلمة استُخدِمت كانت في وصف أولئك المسؤولين جريمة الاغتيال بـ«الحادثة». وهناك فرق كبير في المبنى والمعنى والأبعاد بين «الحادثة» والجريمة. كل هذا كان قبل الردّ، وتركَ انطباعاً سلبياً وسط ترددات أنباء السجال الإيراني في مجلس الشورى الذي كشفَ عند بعض النواب ما يشبه الانقلاب في اللغة السياسية الإيرانية في ما يخص التحالف بين قوى «محور المقاوَمة».
بعض الخبراء العسكريين يجزمون بأن إيران ما كانت قادرة على الرد على اغتيال السيد نصرلله وقادة الميدان، مباشرةً، قبل أن تنجز المقاومة التعديلات اللازمة على بنيتها القيادية، والتقاط الأنفاس لتكون مستعدّة لأي تحرّك إسرائيلي على أرض الجنوب. وهذا تم بسرعة قياسية. وقبل ليلة من هجوم إيران الصاروخي حاول الجيش الإسرائيلي الدخول إلى لبنان فجُوبه بالصد. وعاد إلى محاولة الدخول في ليلة الصواريخ الإيرانية فنصب المقاومون له كميناً أوقع المهاجمين بين قتيل وجريح.. والجيش الإسرائيلي كان يريد استغلال الوقت الثمين بالنسبة إليه بعد اغتيال نصرلله مباشرةً معتقداً أن ضرب منظومة القيادة سيشرذم العناصر، فاكتشف «على الأرض» أن لا شيء تغيّر، لا بل ازداد المقاومون شجاعةً وحوافز لإنزال خسائر في صفوفه.
اليوم، الهجوم الصاروخي الإيراني هو الحدث. والرد الإسرائيلي منتَظَر. والرد على الرد هو الآخَر منتَظَر. وبالنسبة إلى خبراء عسكريين إيرانيين ترددت أقوالهم في الأربع وعشرين ساعة الأخيرة، ناهيك عن تصاريح قادة الحرس الثوري، فإن الردّ على رد إسرائيل سيكون أكبر من حيث عدد الصواريخ ونوعيتها. فالبالستي الذي نزل في إسرائيل سلاحٌ مدمّر، لكنْ لدى إيران نوعيات أقوى وأشد تدميراً من الصواريخ البالستية، ويقال أنها أدخلت إلى الخدمة طائرات مسيّرة تحمل كمية من المتفجرات والمواد التي تُسقِط بنايات بكاملها، ذلك أن الصواريخ التي استُخدِمَت في الهجوم كانت شديدة التأثير في المكان الذي تسقط فيه، لكنها لا تدمّره. وإذا كان المسؤول الأميركي سوليفان أعلن أن «الضربة غير فعّالة، وقتلَت فلسطينياً واحداً» في معرض تسخيف ما جرى، وهذا كذبٌ فاضح والعالَم كله رأى على الشاشات الحرائق التي اندلعت من كثير من الأماكن، فإن المَوجة الجديدة «سوف تغيّر وجه إسرائيل» على ما يقول الرأي الإيراني.
لقد دخلنا مرحلة جديدة. هي الحرب. لا تسمية أخرى لها إلّا عند الذين يريدون تخفيف وقع كلمة الحرب. ولن تنتهي من دون أن يشعر نتنياهو بأن جمهور إسرائيل بدأ ينقلب عليه نتيجة الخسائر المادية والبشرية والمعنوية. هذا هو التقليد في إسرائيل. فطالما أن المجتمع فيها لم يتأثّر بالشكل الجدّي بعد فهو منحاز إلى نتنياهو وجبروته. أما عندما ينقلب عليه جبروته هزيمةً في مكان ما، فسيطلب فوراً وقف النار. ولنا في حرب تموز دليل أن ثلاثين يوماً من تدمير الطائرات الحربية البنية البشرية والعمرانية والتحتية في لبنان لم تشفِ غليل إيهود أولمرت، أما عندما دخلت الدبابات وظهرت صواريخ الكورنيت مع المقاومين مُحدِثَةً مجزرة الميركاڤا الشهيرة، سارعَت كوندوليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية يومها إلى طلب وقف إطلاق النار فوراً، وهكذا توقفت الحرب.
الرد الصاروخي الإيراني ردّت عليه إسرائيل في لبنان بما بات يُطلَق عليه «ليلة الضاحية» حيث دمّرت طائرات الحرب الإسرائيلية أكثر من خمس عشرة بناية سوّتها بالأرض، ووصلت أصداء الغارات العنيفة إلى أماكن بعيدة جداً عن بيروت، حتى أن سكان بعض المناطق القريبة من القصف، مثل الحدت وعين الرمانة غادروا في الليل بعد سماعهم حجم الغارات وشناعتها، إلى مناطق الداخل.
تداعيات الهجوم الصاروخي الإيراني كشفت فوراً أن المستوى السياسي والعسكري من رؤساء وزارات سابقين وقادة أركان وشخصيات سياسية بدأوا هجوماً على نتنياهو بداعي أن إسرائيل لا تتحمل حرباً على عدد من الجبهات في وقت واحد، خصوصاً أن الاستنزاف حاصل في كل قطاع من الدولة العبرية، وكذلك على صعيد المجتمع الإسرائيلي الذي وصف صواريخ إيران بأنها «يوم القيامة». ولعلّ الڤيديو الذي انتشر ويَظهر فيه نتنياهو راكضاً في أحد أروقة حُفرة القيادة هارباً إلى مكان آمن، أعطى صورة لمواطنيه أن أحداً ليس فوقه خيمة زرقاء من رأس إسرائيل إلى كعبها.
وإذا كان السيّد الشهيد حسَن نصرلله في حرب تموز قد أطلق في وسَط الحرب وعداً صادقاً بإعادة إعمار البيوت المهدمة وإعادتها «أجمل مما كانت»، ما طمأنَ الناس أنهم لن يكونوا متروكين بلا بيوت، فإنّ وعداً صادقاً جديداً (لم يصدر بعد) بدأ يتردّد في أوساط جمهور المقاومة ومسؤولي حزب لله بأن إعادة الإعمار أمرٌ مفروغ منه، وإن إيران ستتكفل بالمشروع الإعماري كله، بالإضافة إلى مبادرة بعض الدول العربية إلى إعلان الإسهام في التعمير.
اليوم حرب. والغد لناظره قريب. ومن الآن إلى موعد وقف إطلاق النار سيمر على الجنوب والضاحية والبقاع الشمالي والغربي بعد دمار كثير. فالنظرية الإسرائيلية الشهيرة «ما لا تحقّقُه بالدمار، تحقّقه بالمزيد من الدمار» عقلية لا توراتية فقط، بل تلمودية تفسّر الدم بالدم وتعيش على النار بالنار وتحلم بالسيطرة على… العالَم، بالقوة العسكرية حيناً، وحيناً آخر بصهيونية دينية بدأ المفكرون في العالَم يجاهرون بانتقادها واعتبارها آفةً كونية. سوى بعض الفينيقيّين اللبنانيين الذين يرونها خشبة خلاصهم!