يعرف الإيرانيون جيداً «مِن أين تؤكل الكتف» في الشرق الأوسط. ولذلك، لم يُهزموا حتى اليوم في غالبية معاركهم. وخلافاً لما اعتقده البعض بعد انفجار الحرب في غزة، تميل معادلات القوة في الشرق الأوسط لمصلحتهم. وثمة دلائل ملموسة إلى ذلك.
على امتداد الجبهات المفتوحة في الإقليم، رفعت طهران مستوى التحدّي في الأيام الأخيرة. ففوجئ الأميركيون والإسرائيليون بتوجيه إيران ضربات صاروخية للمرّة الأولى منذ فترة طويلة إلى ما اعتبرته أهدافاً تجسسية إسرائيلية أو إرهابية في أربيل العراق وفي منطقة حلب في سوريا.
وأتبعت طهران هذه الضربات بأخرى شرقاً، فاستهدفت في باكستان تنظيم «جيش العدل» الذي ينشط على الحدود بين البلدين، وينفّذ عمليات ضدّ القوات الإيرانية هناك، رافعاً شعار الاستقلال لمحافظة سيستان وبلوشستان عن إيران. ويعتبر الإيرانيون هذا النشاط الانفصالي تخريبياً، ويتهمون واشنطن باستثماره أحياناً لزعزعة استقرارهم وممارسة الضغوط لإخضاعهم.
وكانت طهران وجّهت رسائل أخرى إلى الأميركيين والإسرائيليين في الخليج العربي باستهدافها السفن المتوجّهة إلى إسرائيل وتلك التابعة للبحرية الأميركية في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن، من خلال حلفائها في اليمن. وبذلك، هي تحاول فرض موقعها كشرطي قادر على التحكّم بحركة الملاحة البالغة الأهمية استراتيجياً في تلك البقعة. وهو ما ردّت عليه واشنطن على مدى الأيام الأخيرة بضربات لمواقع الحوثيين.
في الموازاة، لا يمكن الفصل بين عروض القوة العسكرية الإيرانية وعروض القوة السياسية على شاطئ المتوسط وحدود إسرائيل، وتحديداً في لبنان، حيث رفع «حزب الله» سقف شروطه في وجه الوسيط الأميركي عاموس هوكشتاين وإسرائيل، من خلال المفاوض الرسمي اللبناني. وفيما أصرّ «الحزب» على رفض التوصل إلى أي اتفاق حول ترسيم الحدود البرية، قبل وقف الحرب في غزة، أضاف إلى هذا الشرط مطلباً مستحيل التسوية في هذه المرحلة، وهو أن يكون انسحاب إسرائيل من مزارع شبعا وتلال كفرشوبا جزءاً من الصفقة الموعودة. وهذا الشرط أدّى إلى إنهاء المهمّة التي تولاها هوكشتاين أخيراً في بيروت، قبل أن تبدأ.
إذاً، واضح أنّ طهران بدأت مرحلة جديدة من المواجهة على كل الجبهات الساخنة في الشرق الأوسط، عنوانها التحدّي. وهذا النهج لا يبدو مستغرباً. فهناك عوامل عدة تسمح لطهران بالتمسك بمواقفها، بل التصعيد والمطالبة بالمزيد في هذه المرحلة، وأبرزها:
1- انفجار الخلاف الأميركي- الإسرائيلي. فإيران تدرك أنّ الولايات المتحدة لن تستهدفها بضربات عسكرية أياً كانت الظروف، وأنّ إسرائيل عاجزة أيضاً عن تنفيذ ضربات عسكرية ضدّها لأسباب تقنية ولفقدان التغطية السياسية الأميركية. وهذا ما يشجّع طهران على التصعيد واستغلال هذه الثغرة في جبهة أعدائها.
2- دخول الإدارة الأميركية في مناخات الصراع السياسي الداخلي، في العام الأخير من الولاية الحالية والتحضير للانتخابات الرئاسية. فإدارة جو بايدن لن تخوض مغامرة أخرى غير محسوبة العواقب في الشرق الأوسط، فيما هي تبذل الجهود لإطفاء النار المندلعة في غزة.
3- تعتبر طهران أنّ العديد من القوى السياسية الإقليمية والدولية قد تجرأت على الولايات المتحدة في السنوات الأخيرة، بما في ذلك الحلفاء. فإسرائيل نفسها تعاكسها اليوم، وكبار الحلفاء العرب يبحثون عن مصالحهم بمعزل عنها: المملكة العربية السعودية وقّعت اتفاق تفاهم مع الإيرانيين برعاية بكين، ومصر والأردن يتشبثان برفض الحلول التي يطرحها الإسرائيليون لتصفية القضية الفلسطينية، والتي حملها وزير خارجية واشنطن أنتوني بلينكن إلى الرئيس عبد الفتاح السيسي في بدايات حرب غزة، وهي تقضي بتهجير الغزيين إلى سيناء.
هذه الوقائع السياسية والعسكرية تشكّل عامل اطمئنان لطهران وتسمح لها بانتهاج سياسة التحدّي طوال أشهر مقبلة على الأقل، والأرجح على مدى عام كامل، ما دامت الحرب الكبرى لن تقع. فحتى الحرب في غزة يُفترض أن تبقى مضبوطة عند مستويات معينة لأنّ المجتمع الدولي والعرب يطالبون بذلك، ولأنّ مصلحة بنيامين نتنياهو تكمن في عدم إحراق هذه الورقة دفعة واحدة وسريعاً، قبل أن يحقّق الأهداف التي يعمل لها.
ولذلك، ثمة من يعتقد أنّ هذا العام سيكون صاخباً بالحروب «الصغيرة» أو الموضعية، من غزة وربما الضفة الغربية، إلى سوريا والعراق واليمن، وإلى لبنان، حيث لا يبدو أنّ أياً من اللاعبين المعنيين، إسرائيل وإيران، سيتجرأ على الانطلاق في المغامرة المفتوحة أو يجد مصلحة في ذلك.
ومن قواعد اللعبة، أنّ الوقائع العسكرية تؤدي حتماً إلى تغييرات في السياسة، وهي التي ترجح غلبة لاعب سياسي على آخر. ولذلك، لن ينتهي المخاض العسكري الجاري خلال العام 2024 من دون أن يترك بصماته السياسية الواضحة على مسار الأزمات في الشرق الأوسط. وبعض هذه الأزمات قد يشهد تحوّلات جذرية.