على الرغم من أن الجيش الإسرائيلي والجبهة الداخلية طالبا الإسرائيليين بالامتناع عن تصوير أماكن سقوط الصواريخ، لأن ذلك يُعدّ بمثابة «مساعدة للعدوّ في زمن الحرب»، لم تتمكن إسرائيل من إخفاء مشاهد سقوط الصواريخ الإيرانية التي انهالت عليها وهي تقطع السماء مثل الشُّهب، قبل أن تسقط في مناطق مختلفة؛ بينها قواعد للجيش، وفق ما اعترف به الأخير بنفسه في وقتٍ لاحق أمس. ولم يمضِ وقت قصير على صمت دويّ الانفجارات، وصافرات الإنذار التي انطلقت نحو ألفَي مرّة، حتّى بدأت الأضرار تتضح من خلال مئات الفيديوات والصور، التي وثّقت الدمار في منازل ومصالح تجارية ومطاعم في أماكن مختلفة، بينها أكثر من مئة منزل في منطقة «هود هشارون» وحدها، والتي بدت كأنها خارجة من زلزال.وكان أوّل من وثّق سقوط الصواريخ على قاعدة سلاح الجو «نفاطيم»، هم فلسطينيون من النقب، حملوا هواتفهم متنقلين في أراضيهم وقراهم التي لا تعترف بها إسرائيل، فكان من نصيبهم أنهم دخلوا التاريخ من باب رأس السنة العبرية، وهم يصرخون في ناحية ما من قلب العتمة في بادية البلاد: «مطار نيفاطيم راح يا ولاد». وأتى ذلك قبل أن يخرج الجيش في اليوم التالي، معترفاً للمرة الأولى بأن قواعد عدّة لسلاح الجو أصيبت، مستدركاً، للتخفيف من وطأة الفضيحة، بأن «الضربات لم تستهدف الطائرات أو الأسلحة أو البنى التحتية التشغيلية المهمة، وإنما المباني الإدارية ومواقع الصيانة التي ليست جزءاً من النواة العملياتية لسلاح الجو»، وفق ما نقلت عنه إذاعة الجيش، مشيرةً إلى أنه «خلافاً للادعاءات، لم يتم إطلاق صواريخ فرط صوتية، وعلى حدّ علمنا لا يمتلك العدوّ مثل هذه الصواريخ».
وقد خرج المدير العام للصناعات الجوية، والذي يعدّ المهندس الرئيسي لمنظومة «حيتس 2» ورئيساً لمشروع «حيتس 3»، بوعز ليفي، قبيل اعتراف جيشه، ليتفاخر، عبر موقع «واللا»، بأن «الإنجاز الكبير تبدّى في أن جميع مواطني إسرائيل تمكنوا من الاستيقاظ مرة جديدة صباح اليوم (أمس)، ليوم اعتيادي ما أمكن، ولكي يحتفلوا بأمن بعيد رأس السنة العبرية. فعمال وعاملات الصناعات الجوية يوصلون الليل بالنهار من أجل حماية سمائنا، ونتائج الاعتراض هي دليل على امتيازهم».
لكن في ليلة رأس السنة ذاتها، أطلت مراسلة «القناة 14»، مير يونا، من «مسيديت توركيز» في شمال تل أبيب، لتنقل وقائع ما حصل هناك؛ حيث أشارت إلى أن فرق الجبهة الداخلية وصلت إلى المكان الذي حدث فيه دمار هائل، لم يُعرف ما إن كان سببه سقوط شظايا الصواريخ أو بفعل الدوي الهائل ذاته للانفجارات، ليقاطعها إسرائيليان اثنان من الحيّ، بالقول: «كل شيء اهتز هنا، وجميع البيوت نالت قسطاً من الدمار، كان الأمر مخيفاً بالفعل… جميع النوافذ تحطمت، وفي الحقيقة لم نعتقد أن هذا سيحدث لنا، لقد كان الأمر جنوناً، طرت من مكاني داخل الملجأ… لم نعش شيئاً كهذا من قبل».
أمّا «هود هشارون»، فقد قالت بلديتها إن أكثر من 100 منزل تضررت، وإن بعض المنازل يحتاج الدمار الهائل فيها إلى وقت طويل لكي يُرمم. كما أن عشرات البيوت الأخرى التي تأثرت بفعل القصف الصاروخي قد أخليت، ونصبت قوات حراسة في الشوارع المحيطة بها، فيما يجري موظّفو وطواقم مصلحة الضريبة جولات على البيوت منذ انتهاء القصف لتقدير حجم الأضرار. ووفق ما نقل موقع «واينت» عن رئيس البلدية، أمير كوخافي، فإنّ عمال بلديته «سيواصلون مهامّهم لمساعدة كل عائلة لكي تقضي العيد»، وإن «كل من يحتاج إلى مساعدة أو كل من يعثر على شظايا صواريخ بإمكانه الاتصال بالمراكز المعنية». وذكّر مستوطنيه بأهمية «الالتزام بتعليمات الجبهة الداخلية، والبقاء قرب الملاجئ لحظة تلقّيهم الإنذارات لأن ذلك ينقذ حياتهم».
سيكون لسقوط الصواريخ الإيرانية حتماً انعكاساته على «الاطمئنان» الغربي إزاء منظوماته الدفاعية
وإذ تعدّ هذه ربما المرّة الأولى في التاريخ التي تُطلق فيها كمية ضخمة من الصواريخ البالستية دفعة واحدة على دولة ما في العالم، فإن «مفخرة» الصناعات الجوية الإسرائيلية لم تصمد أمام الامتحان الحقيقي الذي أتى بعد حوالي 40 عاماً من ولادة فكرتها في بداية الثمانينيات، بعدما أعلن الرئيس الأميركي، رونالد ريغان، عن «مبادرة الدفاع الاستراتيجي»، والتي كانت عبارة عن خطة طموحة لتطوير مظلة دفاع جديدة من الصواريخ. في ذلك الحين، كما يذكر د. يوفال بوستن، في تقرير سابق له نُشر في مجلة «إسرائيل فوربس»، اقترح المبادرون أفكاراً جذرية مثل اعتراض الصواريخ البالستية باستخدام الأقمار الصناعية المسلحة بأشعة الليزر القوية، أو تطوير أنظمة دفاعية أرضية جديدة؛ إذ إنه من الناحية العملياتية، كان البرنامج الجديد مصمماً لاعتراض التهديد النووي السوفياتي، ومن الناحية العملية، كانت أهدافه المعلنة هي الخيال العلمي. وبناءً على ذلك، أطلق عليه اسم «حرب النجوم». لكن هذه المنظومة لم يكن لها برنامج تكنولوجي حقاً، وثمة من يقول إن هدفها من البداية كان أن يدرك قادة الاتحاد السوفياتي أنهم ليسوا قادرين على التغلب على الولايات المتحدة في سباق التسلح.
توقفت «حرب النجوم» في عهد كلينتون، بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، وانتهاء الحرب الباردة، لكن العمل على العديد من المشاريع التي ولدت في إطار هذه الحرب، استمرت. شاركت إسرائيل في المشروع بالفعل في مرحلة مبكرة، على الرغم من أن تهديد الصواريخ البالستية العابر للقارات، والقادم من موسكو، لم يكن في مقدّمة سيناريوات التهديد التي استعدّت لها المنظومة الأمنية. ومن المؤكد، وفقاً لبوستن أن العلاقات القوية مع الولايات المتحدة وتطوير المعرفة المهمة للدفاع مقابل الصواريخ الأصغر حجماً، أثارا الاهتمام في إسرائيل. وقد تم التعبير عن ذلك في التطوير المشترك مع الأميركيين لنظام الاعتراض «حيتس» (السهم).
وفي عام 1991، عندما تعرضت إسرائيل لهجوم بعشرات صواريخ «سكود» العراقية، تم نشر نظام «باتريوت» الأميركي في إسرائيل. لم يكن أداء الجيل الأول من نظام الاعتراض هذا مثيراً للإعجاب، حيث سجّل نجاحاً بنسبة 40% فقط، وفقاً للتقدير الأكثر إيجابية. ومردّ ذلك أن «باتريوت»، الذي تم تطويره في الأصل كنظام مضادّ للطائرات، لم يتكيّف مع سرعة صواريخ «سكود»، وفي معظم الحالات فشل في إصابة هذه الصواريخ وتدميرها. وبعد الحرب، سُرّع تطوير نظام «السهم»، لينجح لأول مرة في اعتراض صاروخ كجزء من اختبار في حزيران/ يونيو 1994، وبات استخدامه عملياً عام 1998.
ويُشير بوستن، في تقريره، إلى أن نظام الدفاع الجوي في إسرائيل مصمّم لمواجهة جميع أنواع التهديدات: من صاروخ بالستي يطلق من إيران أو اليمن في اتجاه إسرائيل، لمسافة تزيد على 1000 كيلومتر، إلى صاروخ يطلق من قطاع غزة في اتجاه «سديروت»، أي لمسافة 2-3 كلم، إذ إن مفهوم الدفاع الجوي الذي تبلور على مرّ السنوات هو متعدّد الطبقات، ويجمع بين عدد من الأنظمة التي تلائم التهديدات المختلفة، وتختلف في سرعة الطيران والوقت ونمط الطيران والحجم والكتلة والقدرة على المناورة.
وبحسب ما اتضح في «الليلة البيضاء» التي أضاءت فيها الصواريخ الإيرانية السماء فوق فلسطين المحتلة، فإن المنظومات التي استخدمت كانت الأكثر تطوراً، وهي «حيتس 3»، و«حيتس 2». وكما كان بوستن قد أوضح في تقريره، فإن الأولى هي عملياً الطبقة العليا والأبعد المصممة لاعتراض الصواريخ البالستية خارج الغلاف الجوي، على ارتفاع عشرات الكيلومترات وعلى مسافة مئات الكيلومترات من إسرائيل. وسجّلت هذه الطبقة أول اعتراض عملياتي لها خلال الحرب الحالية على غزة، وذلك عندما اعترضت بنجاح صاروخاً أطلقه «أنصار الله» من اليمن، على مسافة نحو 1600 كيلومتر من إيلات.
واللافت أنه من بين جميع الأنظمة الدفاعية، فإن «السهم 3» هو الوحيد الذي يقوم فيه الصاروخ بإصابة التهديد (الصاروخ الباليستي) بدقة وليس مجرد إحداث انفجار بالقرب من الصاروخ لإسقاطه. أمّا «حيتس 2» فهي الطبقة الثانية التي تتعامل مع التهديدات البالستية التي يتم إطلاقها من مدى مئات إلى حوالي 1500 كيلومتر. وفي عام 2017، سجّل هذا النظام أول نجاح عملياتي له، عندما اعترض صاروخاً مضاداً للطائرات من نوع «إس 200»، أطلق من سوريا، كما تمكن بنجاح من اعتراض التهديدات القادمة من اليمن في الحرب الحالية.
يُذكر أنه في العام الماضي، وقّعت إسرائيل وألمانيا صفقة لتصدير منظومة «حيتس» إلى الأخيرة، بلغت قيمتها 3.5 مليارات دولار، على أن تُسلّم المنظومات في العام المقبل. ومنذ ذلك الحين، اطمأنت برلين إلى أنها وجدت ما يمكن أن تصدّ به «الخطر القادم» من موسكو، قبل أن يأتي ليل أمس حاملاً امتحاناً صعباً بُثّت وقائعه على الهواء مباشرة، وستكون له حتماً انعكاساته على ذلك الاطمئنان الغربي.