من بين أفضل العبارات التي تصف حال الدبلوماسية الأميركية٬ ما قاله المفكر الأميركي البروفسور ستيف والت٬ ذات مرة٬ بأن «غالًبا ما تعمد الدبلوماسية الأميركية إلى إقحام واشنطن في صراعات وتعقيدات لا تستطيع الفوز بها ولا التهرب منها…»٬ هل كانت إدارة باراك أوباما وعبر دبلوماسية النأي بالنفس عن التعامل مع إشكالات الشرق الأوسط٬ أداة جديدة لتعزيز عدم الاستقرار في المنطقة؟
يبدو في واقع الأمر أن المسألة تتجاوز هذا التوصيف إلى توسيع الجرح وتعميقه في الإقليم المضطرب منذ عقود طوال٬ وخير دليل اتفاقها غير البريء مع إيران بشأن برنامجها النووي. قبل بضعة أيام كانت إيران تجري مناورات عسكرية أطلقت عليها «اقتدار الولاية»٬ وهو عنوان يحمل مضامين ومكنونات لا تغيب عن الأنظار٬ تقع في خانة الآيديولوجيا الثورية الإيرانية المستقرة والمستمرة٬ وفيها استعرضت عدة نماذج من الصواريخ الباليستية٬ التي يمكن لها مستقبلاً أن تحمل رؤوًسا نووية صغيرة الحجم٬ يصل مدى بعضها إلى ألفي كيلومتر.
َمن المسؤول عن تلك المناورات وعن برنامج الصواريخ النووية الإيرانية الباليستية؟
بالقطع الحرس الثوري الإيراني٬ الذي يأتمر بأمر المرشد علي خامنئي٬ وليس الرئيس حسن روحاني٬ ونفوذه أقوى من الجيش والقوات المسلحة الأخرى.. ماذا تحمل تلك المناورات من معاٍن ودلالات؟
يمكن القول بداية إنها رسالة للعالم٬ لا سيما الغرب تحديدا٬ تفيد بأن الاتفاق النووي لن يكون عائًقا٬ ولن يحد من طموحات طهران العسكرية٬ وتطويرها برامج تسليحية متقدمة.
الأمر الآخر يتصل بزيف التفريق في الداخل الإيراني بين من يطلق عليهم الجناح المعتدل والجناح المتشدد٬ ذلك أن المسألة برمتها لا تتجاوز توزيع الأدوار.
تلعب إيران لعبة أممية دون أدنى شك٬ فهي تظهر للعالم أنها تغير من سياساتها٬ لكن تبقى استراتيجيتها الكبرى «تصدير ثورتها إلى العالم»٬ في القلب من أهدافها٬ مهما دارت أو وارت٬ والاستراتيجيات تعلم دارسيها أن الأهداف يمكن الاقتراب منها عن طريقين؛ اقتراب مباشر٬ أو اقتراب غير مباشر٬ مع بقاء الهدف في الحالتين ظاهًرا أمام عيون طالبيه٬ حتى وإن أخذتهم التضاريس إلى الطرق الدائرية. الكارثة الإيرانية تتمثل في أنها تحاول أن تتلبس زي دون كيشوت العصر بالتصريح لا بالتلميح.. بأننا «لا نسعى للهيمنة على دول الآخرين٬ بل نسعى لمساعدة المظلومين في مواجهة الظالمين٬ ومن أراد ممارسة الظلم بحق الشعوب المسلمة المظلومة٬ عليه أن يعلم بأن هذه الصواريخ تشكل خطًرا عليه».. هل العالم في حاجة بعد إلى شهود عدول على الأسوأ الإيراني الذي لم يأِت بعد؟
يبدو أن إدارة أوباما وحدها من لا تدرك٬ وهذه مصيبة٬ أو تدرك وتتغاضى٬ والهول هنا أعظم٬ لا سيما أن قائد القوة «الجو فضائية»٬ الإيرانية التابعة للحرس الثوري٬ العميد حاجي زاده٬ خانه التعبير٬ وصرح بأن «إيران تحتفظ بمعداتها في أماكن لا يمكن للأعداء تدميرها٬ وأن لديها القدرة على مواصلة حرب طويلة»..
عن أي معدات يتحدث الرجل؟
تسعى دول التحالف العربي لتهدئة المشهد في اليمن٬ بينما نائب رئيس هيئة أركان القوات المسلحة الإيرانية٬ الجنرال مسعود جزايري٬ يعلن أن دولته قد ترسل مستشارين عسكريين إلى اليمن لمساعدة الحوثيين في حربهم ضد قوات التحالف العربي٬ والإعلام يجيء بعد يوم من ضبط سفينة تابعة للبحرية الأسترالية كمية كبيرة من الأسلحة كانت في طريقها لليمن يشتبه أن مصدرها إيران.
مؤخًرا جًدا تعترف واشنطن وعلى لسان قائد القوات الأميركية في الشرق الأوسط بأن «إيران لم تغير من سلوكها بعد الاتفاق الدولي حول برنامجها النووي ورفع العقوبات تدريجًيا عنها».
لم تدهشنا شهادة الجنرال لويد أوستن أمام لجنة القوات المسلحة في مجلس الشيوخ الأميركي الأيام الفائتة٬ وتأكيده أن «إيران ما زالت اليوم قوة مهمة لزعزعة الاستقرار٬ وأن المراقبين قلقون من قدرات الإيرانيين في مجال المعلوماتية واستعدادهم لتفخيخ المضايق ونشاطات فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني».
إشكالية واشنطن الحقيقية٬ هي أنها دائًما ما تعمد إلى إخراج الجني من القمقم وتفشل عادة في إرجاعه٬ وفي أحيان أخرى تغازله٬ ولا تتعاطى مع دروس الماضي٬ بل عبر اللعب على المتناقضات٬ تفقد الأصدقاء٬ وتكتسب مزيًدا من الأعداء٬ وعلى من يريد الدليل الرجوع إلى «نيويورك تايمز» الأسبوع المنصرم٬ والاطلاع على أبعاد الاتفاق السري بين أميركا وإيران الذي سبق غزو العراق. أفضل الردود العربية الحقيقية دون شعارات زاعقة أو رايات فاقعة على المناورات الإيرانية٬ تمثل في مشهد اختتام مناورات «رعد الشمال» في حفر الباطن٬ حيث حمل المشهد رسالة رمزية إلى كل من يفكر في الاعتداء على أراٍض عربية٬ فأفضل طرق حفظ السلام٬ الاستعداد للحرب٬ وهي اللغة الوحيدة التي يتفهمها العالم الإنتروبي الذي نعيشه اليوم٬ «مواكبة العصر هي التحدي الأكبر في فن الحكم» قالها فيلسوف الدولة الفلورنسي نيكولا مكيافيللي قبل عدة قرون خلت.