قال الباحث والكاتب وضاح شرارة «ليس صحيحاً أنّ هناك احتلالاً إيرانياً، لسبب أسوأ من الاحتلال. المؤرخون العرب والمسلمون يستخدمون مصطلح الاستدخال. والاستدخال يعني الأخذ من الداخل، مثل نموذج حصان طروادة. وهو أصعب وأسوأ من الاحتلال».
تحدّث الباحث شرارة أيضاً عن السلطنة الإيرانية لا عن الدولة الإيرانية، وأعطى التوصيف الأدقّ لتمدُّد مشروعها الذي لا يَتكئ مباشرة على الجيش او الحرس الثوري الإيراني من أجل وصفه بالاحتلال، إنما يستند إلى قوى محلية تتبع نفس المذهب الديني او تتم استمالتها بالمال والسلاح، وهذا ما اعتبره أسوأ من الاحتلال وأطلق عليه مصطلح الاستدخال.
ولا يجوز الخلط بين قوة احتلال وبين من يؤدي وظيفة قوة احتلال، بمعنى انّ «حزب الله» ليس قوة احتلال، إنما يقوم بدور قوة احتلال من خلال رفضه تسليم سلاحه وسيطرته على الحدود وإمساكه بقرار الحرب وتعطيله الدستور ومنعه قيام الدولة الفعلية.
ولا يخجل «حزب الله» بإلاعلان انّ عقيدته إيرانية وماله وسلاحه وتدريبه ومشروعه وقراره إيراني، ولكنه في نهاية المطاف لبناني، ولا يمكن الطلب منه مغادرة لبنان على غرار مغادرة الجيش السوري الأراضي اللبنانية او خروج منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان، والأمر نفسه ينطبق على الحشد الشعبي في العراق والحوثي في اليمن ونظام البعث في سوريا.
وهذا يعني انّ الكلام عن احتلال إيراني يتراوح بين التبسيط والمزايدة والسطحية، والهدف الأساسي منه القول، كما أكد الدكتور هشام بو ناصيف، ان الأزمة اللبنانية خارجية (صراع الآخرين على أرض لبنان)، وهذا خطأ كبير في التشخيص، لأنه لولا وجود بيئات لبنانية حاضنة لما تمكّنت المشاريع الخارجية من ان تستوطن لبنان، وما زال هناك من يروِّج انه مجرّد زوال الاحتلال الإيراني يعود لبنان سويسرا-الشرق، وعلى رغم خطأ هذا الترويج إلا ان السؤال: ما هو التصوّر لإزالة هذا الاحتلال، وكيف؟
فأصحاب نظرية الاحتلال الإيراني يتمسكون بما هو موجود، اي اتفاق الطائف والقرارات الدولية، بانتظار تطورات تؤدي إلى تقليص الدور الإيراني او تغييره، أي تَرداد اللازمة نفسها من دون أي خطة عملية بانتظار أن يعيد المجتمع الدولي وتحديداً واشنطن الدور الإيراني إلى داخل حدود الجمهورية الإسلامية، ولكن هذا الدور المصدِّر للثورة الدينية لن ينتهي طالما انّ النظام نفسه ما زال موجوداً، لأن علّة وجوده تكمن في تصدير الثورة.
فالعامل الوحيد الذي يدفع «حزب الله» إلى التسليم بشروط الدولة يكمن في انهيار النظام الإيراني، وما لم ينهار هذا النظام فإنّ الحزب لن يسلِّم سلاحه، وستتذرّع طهران بأنّ ما يقوم به الحزب لا علاقة لها به، كما تُعلن وتصرِّح أساساً، وتعتبر انّ الحزب كالحشد الشعبي في العراق والحوثي في اليمن هي مكونات داخلية لها حيثياتها ومطالبها ودورها ولا علاقة مباشرة لطهران بها، وأن دعمها لهذه المكونات مُتأتٍ من كونها في موقع المتصدي للمشروع الاستكباري الذي تقوده الولايات المتحدة.
وعلى رغم انّ عملية «طوفان الأقصى» أدخلت الشرق الأوسط وستدخله أكثر فأكثر في مرحلة جديدة عنوانها تطويق الدور الإيراني الذي سيتحوّل إلى أولوية لا تقل شأناً عن أولوية مواجهة النووي الإيراني، إلا ان هذه المواجهة طويلة ومن الصعب تقدير نتائجها وتطورها، وعامل الوقت يلعب لمصلحة مكونات هذا المحور بسبب سلاحها وفرضها أمر واقع سياسي في الدول الموجودة فيها، ومن الخطأ التعامل معها إن بسياسة انتظارية، أو بمواجهة كلاسيكية اعتادت عليها وأصبحت مستفيدة منها.
ولا شك انّ انتظار نهاية حرب غزة مسألة ضرورية قبل اعتماد أي سياسة استراتيجية او الشروع في خطط عملية، إلا انّ هناك معطيات لا يمكن إغفالها وفي طليعتها ان مكونات الممانعة غير قابلة للاندماج في دولها على أساس الدساتير الموجودة، إنما تواصل انقلابها على ما هو قائم وموجود، والدفع باتجاه مزيد من تطويع المؤسسات والدولة لتصبح في خدمة مشروعها.
وقد دلّت عدة محطات الى ان المجتمع الدولي إمّا لا يريد مقاربة جوهر الأزمات التي تسبِّبها مكونات الممانعة، وإما يتعامل معها باعتبارها جزءاً لا يتجزأ من نسيج هذه الدول، وان لا مناص من الحوار معها، خصوصاً ان لها حيثيتها وتمثيلها، ومعلوم ان الحوار، الذي جرِّب مرارا وتكرارا، لم يوصل إلى نتيجة عملية، وتنتهي جولات الحوار عند تمسُّك هذه المكونات بسلاحها وكيانها ومشروعها المناقض لمشروع الدول الوطنية.
ومن هذا المنطلق فإنّ اختصار وضعية «حزب الله» بالاحتلال الإيراني عدا عن كونها مجرّد تبسيط سياسي، فإنها تنمّ عن خطأ كبير في الشخيص، والخطأ في التشخيص يقود بدوره إلى خطأ في المعالجة واستطرادا المواجهة، لأنّ وضعية الحزب تختلف عن وضعية منظمة التحرير الفلسلطينية كمكوِّن خارجي له بيئة حاضنة داخلية، والجيش السوري كمكوِّن خارجي له بيئة حاضنة داخلية، وهذا الاختلاف يتمثّل بكون «حزب الله» أحد المكونات الداخلية الذي يشكل جزءا لا يتجزأ من مشروع خارجي وهو المشروع الإيراني.
فوضعية «حزب الله» هي وضعية مختلفة عما سبقها ويجب التعامل معها وفقاً لما هي عليه، واستسهال الكلام عن احتلال إيراني يعمِّق الأزمة ويخدم الحزب، فيما أصبح من الملحّ والضروري مقاربة هذه الإشكالية بطريقة مختلفة وهي التي تحدّث عنها الباحث شرارة بأنّ إيران تعمل على السيطرة على لبنان والعراق واليمن وغيرها من الدول من الداخل، وهو ما أطلق عليه مصطلح الاستدخال والذي اعتبره أخطر من الاحتلال، وهو كذلك، لأنّ منظمة التحرير كانت عاملا خارجيا والجيش السوري أيضا، بينما الحزب حالة داخلية بعمقٍ خارجي ولها حيثيتها وتنظيمها وبنيتها، ووجودها يَضعف أو يَقوى ارتباطاً بوجود النظام الإيراني، وطالما ان هذا النظام موجود، فيعني ان هذه الحالات ستبقى موجودة، لأنّ المشروع الإيراني لا ينحصر بدولة وحدود، إنما يرتبط ارتباطاً وثيقاً بسلطنة لها امتداداتها ولا تنتهي هذه الامتدادات إلا مع سقوطها.
وما ينطبق على السلطنة الإيرانية اليوم ينسحب بشكل أو بآخر على واقع الاتحاد السوفياتي أمس، والذي أدى انهياره إلى تفكُك سيطرته وانتهاء امتداداته، والأمر نفسه حصل مع السلطنة العثمانية. وبالتالي يستحيل ان ترفع طهران يدها عن لبنان وسوريا والعراق واليمن قبل انهيار سلطنتها، وانهيار السلطنة من عدمه يفوق قدرة اللبنانيين الذين عليهم الخروج من السياسة الانتظارية التي في حال طالت كثيراً ينجح معها «حزب الله» بتغيير المعطيات الديموغرافية والوقائع السياسية، ويصبح حتى مع سقوط السلطنة من الصعب تغيير الوقائع المستحدثة التي تتحول إلى أمر واقع سياسي لا عودة معه إلى الوراء.
وإذا كان الاستدخال لا يواجَه بالانتظار كَون عامل الوقت يعمل لمصلحته، والدليل أولاً التجربة الممتدة منذ العام 2005 إلى اليوم، والدليل ثانياً تمدُّد الحزب منذ نشأته إلى اليوم، فإن الاستدخال لا يواجه سوى بالانفصال الذي وحده بإمكانه الحدّ من تَمدّده وتوسعه وانتشاره، وذلك من أجل الحفاظ على مساحة لبنانية وسورية وعراقية ويمنية بانتظار انهيار السلطنة الإيرانية، وعندما تنهار تعود الأجزاء المقسّمة للتوحّد ضمن مشروع الدولة الوطنية.