تصاعد التوتر على جبھة التنف السوریة، والصراع المحتدم على المعابر الممتدة من إیران إلى العراق وسوریا وصولاً إلى لبنان، والتراشق المتصاعد عبر بیانات التحذیر بین روسیا والولایات المتحدة في سوریا، كل ذلك لن یؤدي في النھایة إلى مواجھة عسكریة بین موسكو وواشنطن، لا في الفضاء ولا على الأرض السوریة، ولكنھ یبقى صراعاً على الأسھم والحصص في بورصة الدم الممتدة من الموصل في العراق إلى الرقّة في سوریا.
عندما قصف دونالد ترمب قاعدة الشعیرات العسكریة بصواریخ كروز، كان تعلیق الروس أنھم لن یردوا إذا تكررت عملیات القصف الأمیركیة، ولكن بعدما قامت مقاتلة أمیركیة قبل عشرة أیام بإسقاط مقاتلة سوریة من طراز «إس یو 22 ،«كانت تلقي القنابل قرب مواقع «قوات سوریا الدیمقراطیة» اختلف الأمر عندما سارعت موسكو إلى الرد بغضب.
وزارة الدفاع الروسیة أصدرت بیاناً تحذیریاً حمل لھجة جدیدة تناقض كل ما قیل سابقاً عن حوارات أمیركیة روسیة تجري في الأردن حول مناطق التھدئة، التي أعلن عنھا في الجولة السادسة من محادثات آستانة، والتحذیر وصل إلى حد القول إن موسكو ستعتبر أي أجسام طائرة في مناطق عمل قواتھا الجویة في سوریا أھدافاً، وشّدد نائب وزیر الخارجیة سیرغي ریباكوف على أن إسقاط الطائرة السوریة خطوة نحو تصعید خطیر.
وزارة الدفاع الأمیركیة تعّمدت إلقاء میاه باردة على الحمى الروسیة، فأصدرت بیاناً مھادناً أوضحت فیھ أنھا لا ترى أي عمل روسي في سوریا یثیر قلقھا عسكریاً، لكنھا حذّرت من أن واشنطن لن تتسامح مع أي نیات أو أفعال معادیة في البادیة السوریة من جانب قوات النظام وحلفائھ، ثم جاء مباشرة قرار الكونغرس فرض عقوبات قاسیة على روسیا، على خلفیة معاقبتھا على التدخل في انتخابات الرئاسة الأمیركیة، لیرفع منسوب التوتر بین الطرفین.
وسط ھذا الجو بدأ النظام السوري وحلیفھ الإیراني كمن یحاول الاصطیاد في المیاه العكرة الأمیركیة الروسیة، عندما تعّمدا إرسال طائرة إیرانیة من دون طیار لتحلّق فوق موقع عسكري للتحالف قرب الحدود العراقیة، رغم التحذیرات الأمیركیة المتكررة من الاقتراب من «منطقة عدم الاشتباك» التي تم التوافق علیھا مع روسیا.
ھناك تحلیلات تقول إن إرسال الطائرة الإیرانیة التي أسقطھا الأمیركیون فوراً، كان بمثابة قرار من طھران التي وجدت أن الظرف ملائم لإلقاء الزیت على الحماوة المرتفعة بین موسكو وواشنطن، لعل وعسى یحصل تصعید توظفھ في مجال السعي لاستئثارھا بالساحة السوریة، وربما لھذا جاء البیان الأمیركي صارماً ھذه المرة، عندما حذّر من أنھ لن یتم التساھل مع النیات العدائیة وتصرفات القوات الموالیة للنظام حیال قوات التحالف والقوات الشریكة في سوریا!
ترافق ذلك مع إعراب الكرملین عن قلقھ البالغ من التطورات في سوریا، ومع تصعید أوساط سیاسیة وبرلمانیة روسیة، من لھجتھا ودعوتھا الحكومة السوریة للرد على العدوان الأمیركي، لكن محاولات إلقاء الزیت الإیراني على أجواء الاحتدام الروسي الأمیركي، بدا من جھة ثانیة، وكأنھ یأتي أیضاً رداً على التصعید المتتالي لإدارة دونالد ترمب ضد طھران.
فمن المعروف أن دونالد ترمب كان قد اتھم إیران صراحة في القمة الأمیركیة الخلیجیة، بأنھا تمّول وتسلّح وتدرب الإرھابیین والمیلیشیات وتشعل النزاعات الطائفیة، وبأنھا المسؤولة عن زعزعة الاستقرار في العراق والیمن وسوریا ولبنان، وقال إن الولایات المتحدة تعمل لعزل النظام الإیراني، وفي 14 یونیو (حزیران) الماضي أقر مجلس الشیوخ الأمیركي مروحة جدیدة من العقوبات القاسیة ضد النظام الإیراني، بسبب برنامجھا للصواریخ البالیستیة ودعمھا أعمالاً إرھابیة دولیة.
في 13 من الشھر الماضي قال ریكس تیلرسون في شھادتھ أمام الكونغرس، إن سیاسة أمیركا تقضي بدحر إیران وھیمنتھا في الشرق الأوسط، واحتواء قدرتھا على تطویر أسلحة نوویة ودعم عناصر في داخل إیران من أجل انتقال سلمي للسلطة.
طھران لم تكت ِف بتوجیھ رسالة احتجاج إلى أنطونیو غوتیریش أمین عام الأمم المتحدة، بل صّعدت من محاولاتھا تأجیج الوضع بین الروس والأمیركیین على الحدود العراقیة السوریة، ثم رفعت التحدي عبر إطلاقھا صواریخ بالیستیة على دیر الزور قالت إنھا تستھدف «داعش»، لكن الھدف من ھذا بدا واضحاً تماماً، فطھران تعّمدت عبر إطلاق الصواریخ أن تبعث مجموعة من الرسائل، وھذا لیس خافیاً لا على الأمیركیین ولا على الروس.
وفي أي حال لم یكن ھدف الصواریخ ضرب «داعش»؛ لأن قوات إیران موجودة في محیط دیر الزور، وواضح أن المقصود ھو الرد على الإجراءات الأمیركیة، وھكذا لم یتردد علي شمخاني في القول إن إطلاق الصواریخ، جاء بمثابة رد على قرارات الحظر التي اتخذھا الكونغرس في شأن القدرة الصاروخیة الإیرانیة، وأنھ یحمل ثلاث رسائل، أولاً إلى الداخل الإیراني لتأكید قدرة النظام على رد التحدي، وثانیاً إلى سوریا لتأكید الإصرار على دعم النظام، وثالثاً إلى من یھمھ الأمر لجھة أن صواریخ طھران تصل إلى مدى 1500 كیلومتر.
الھدف الأعمق یبقى في الرھان على محاولة تأجیج الخلاف الأمیركي الروسي فوق الحلبة السوریة؛ لأن لا معنى عسكریاً لإرسال طائرة إیرانیة من دون طیار إلى منطقة التنف، حیث تتقدم القوات التي تدعمھا واشنطن داخل الرقة معقل «داعش».
قبل أسبوعین بدا بیان الاستنكار الذي أصدره سیرغي لافروف بعد الغارة الأمیركیة على رتل لقوات النظام كان یتقدم نحو معبر التنف، وكأنھ یخفي رھاناً روسیاً مشابھاً للرھان الإیراني، أي رغبة موسكو في تأجیج المواجھة بین الأمیركیین والإیرانیین في سوریا، والدلیل أن الغارة حصلت بینما كان المفاوضون الروس مجتمعین مع زملائھم الأمیركیین في عمان، وترددت أنباء عن أنھم كانوا على علم بالغارة!
ھل في حسابات فلادیمیر بوتین المضمرة أنھ ینبغي أو من الضروري وضع حدود وضوابط لاندفاع الإیرانیین المتمادي في سوریا، والذي یحاول أن یجعل من الھلال الشیعي بدراً كما یقولون في طھران، وما المانع لو استطاع بوتین مثلاً أن یأكل بالیدین معاً، بمعنى أن یكتفي بمراقبة الأمیركیین یقومون بوضع حد للإیرانیین الذین ینافسونھ على الجبنة السوریة، لیصیب في النھایة عصفورین بحجر واحد، أي تأجیج مشكلات واشنطن مع طھران، بما یرتب على الأمیركیین مزیداً من التحدیات، ووضع حد لھؤلاء الإیرانیین الذین مضوا بعیداً في استثمار التدخل العسكري الروسي في سوریا لتعمیق سیطرتھم.
إنھا الرھانات المفخخة في سوریا، الإیراني ینفخ في النار بین الأمیركیین والروس، والروسي ینفخ في النار بین الأمیركیین والإیرانیین، والنظام السوري بالتأكید ینفخ في النار المندلعة بین الجمیع لیرث الجمیع