شكّل كتاب المؤرِّخ كمال الصليبي «بيت بمنازل كثيرة»، في طبعته الأولى المنشورة في العام 1990، عصارة فكر وتجربة هذا المؤرِّخ الكبير، الذي عكس واقع الحال في لبنان بدقة متناهية يختصره العنوان بوضوح شديد.
أكبر خطيئة تُرتكب بحق لبنان واللبنانيين هي خطيئة التعامي على حقيقة المشكلة اللبنانية والمزايدة بشعارات وحدوية وتعايشية يُمارس عكسها على أرض الواقع، فلا حلّ لأي مشكلة قبل تشخيصها وتشريحها وتفكيكها ودراسة أسبابها وخلفياتها واقتراح المخارج والحلول اللازمة لمعالجتها بشكل نهائي لا مؤقت، وبهدف إعادة الاستقرار الذي يشكّل أولوية الأولويات، هذا الاستقرار الذي اهتز في ثورة العام 1958 واتفاق القاهرة في العام 1969 وسقط في العام 1975، وما زال يتراوح بين الاهتزاز الدائم والسقوط المتقطِّع.
فقيام الدولة ليس اختصاصاً لفئة معينة من اللبنانيين، إنما يجب ان يكون مصلحة لجميع اللبنانيين الذين ينشدون الاستقرار والازدهار ويتطلعون إلى العدالة والحرية وحكم القانون. وهل يُعقل ان يكون النزاع في العام 2022 بين من يريد الدولة ومن لا يريدها؟ وقد يكون مفهوماً النزاع لو كان قائماً بين من يريد إرساء دولة شيعية مقابل من يسعى لإرساء دولة سنّية أو دولة مسيحية او دولة درزية. ولكن ما هو غير مبرّر على الإطلاق، انّ هناك فئة تريد ان تكون الدولة على صورتها ومثالها، وتمنع هذا الحقّ عن غيرها، والأهم من ذلك انّها تحول دون قيام دولة لجميع اللبنانيين وتشكّل المساحة المشتركة بينهم.
ويجب التسليم باستحالة إقناع الفريق الذي لا يريد سيادة ودستوراً وقانوناً بأهمية هذه المفاهيم، لأنّه مرتبط عقائدياً وسياسياً ومصلحياً بمشروع خارجي يبدّيه على المشروع اللبناني، ما يعني انّ وسيلة الإقناع ساقطة عسكرياً، وانّ لا حلّ مع هذا الفريق سوى من خلال موازين قوى خارجية تبدِّل في الدور الإيراني، او موازين قوى داخلية تبدِّل في النظام اللبناني، باعتبار انّ نزع السلاح بالقوة غير ممكن، وكل ما هو غير ذلك مضيعة لوقت اللبنانيين الذين يدفعون يومياً ثمن غياب الاستقرار وعدم قيام دولة، بسبب مشروع «حزب الله» الذي لا علاقة له بلبنان.
فما الحكمة والمصلحة مثلاً من إصرار زوجين على البقاء تحت سقف واحد على رغم خلافهما على كل شيء، بدءاً من علاقتهما الثنائية واختلاف الأولويات والأمزجة وطريقة العيش، مروراً بتربية الأولاد ومستقبلهم، وصولاً إلى فشلهما في تنظيم العلاقة الزوجية وإدارتها في كل ما يتصل بالأمور الكبرى منها والصغرى؟ فهل زواجهما مسألة قدرية، أم انّ قرار انفصالهما يبقى ملكهما من أجل وضع حدّ لحياة الجحيم تحت سقف هذا البيت؟
ولا شك، انّ من مسؤولية الزوجين السعي مراراً وتكراراً لتنظيم العلاقة وترتيبتها، ولكن في حال بقيت الأمور تراوح بين السيئ والأسوأ، يجب وضع حدّ لهذه العلاقة المأزومة عن طريق الطلاق، لما فيه مصلحة الطرفين وأولادهما. وما يصحّ على المستوى الخاص يصحّ على المستوى العام، حيث أثبتت التجربة انّ الحوار مع «حزب الله» لن يؤدي إلى أي نتيجة في ظل إصراره على ما يسمّى المقاومة، كما أثبتت انّ عدم مبادرة معظم من همّ ضد مشروع الحزب إلى الدعوة للطلاق هو بسبب عجزهم عن هذه الخطوة، لأنّ الطلاق الزوجي هو قرار نابع عن إرادة شخص او شخصين، فيما الطلاق الوطني بحاجة لقدرات وميزان قوى غير متوافرة في ظلّ ترسانة الحزب المسلحة. إذاً، لا يكفي إعلان الطلاق سياسياً من دون القدرة على ترجمته عملياً.
وما المبرِّر صدقاً من العيش في وطن واحد وتحت سقف واحد بين فئات مختلفة على كل شيء، بدءاً من مفهوم السيادة والاستقلال ونهائية الكيان، مروراً بدور الدولة واحتكارها وحدها للسلاح، وصولاً إلى علاقات لبنان الخارجية وأولوية الإنسان والاستقرار والازدهار؟ والأسوأ من كل ذلك، انّ من يطالب بالطلاق يُصبح تقسيمياً، ومن يفرض شروط العيش على غيره يُصبح وطنياً؟
وكيف يمكن الحديث عن شراكة ومساواة بين اللبنانيين في ظلّ من يتمسك بسلاحه ومصادرته لقرار الدولة ضدّ إرادة معظم اللبنانيين؟ وهل يمكن لوطن ان يستقيم في ظل فئة غالبة وفئات مغلوبة؟ والشراكة لا تُجزّأ، فإما تُطبّق على كافة المستويات وفي كل ما يتصل بأمور الدولة وشجونها، وإما لا شراكة، فلا يستطيع ان يختار «حزب الله» القضايا التي يريد ان يتفرّد بها من دون شراكة أحد، ويتمسّك بالمقابل بشراكته في القضايا الأخرى.
وبعد 17 عاماً على إشكالية سلاح «حزب الله» ودوره، وبعد الانهيار غير المسبوق الذي يشهده لبنان، وبعد الفشل المدوي للدولة وتعطُّل كل مؤسساتها وأجهزتها وإداراتها، وبعد المأساة التي تعيشها الناس والهجرة التي لم يشهد لبنان مثيلاً لها في زمن الحروب، لم يعد مسموحاً ولا مقبولاً ان يستمر التغاضي عن جوهر الأزمة اللبنانية المتمثِّل بمصادرة الحزب لقرار الدولة في الشؤون الاستراتيجية. وعلى رغم انّ رفض هذا الواقع لا يقدِّم ولا يؤخِّر باعتبار انّ الحزب يواصل دوره ولا قدرة عملية على وضعه عند حدِّه، إنما هناك مسؤولية كبرى على الناس أولاً والقوى السياسية أولاً وثانياً، من أجل الدفع والضغط السياسي والشعبي تحقيقاً لهدف من اثنين: إما دولة واحدة بقرار واحد وسلاح واحد وشراكة كاملة المواصفات، وإما البحث جدّياً بالخيارات البديلة والدفع باتجاه تحقيقها.
فالصراع التقليدي المستمر منذ العام 2005 أثبت انّه لم يحقِّق النتائج المرجوة، والسياسة الانتظارية أصبحت مكلفة على اللبنانيين خصوصاً في ظل الانهيار المتمادي، ما يعني انّ صمودهم بات مهدّداً، وما يعني أيضاً ان الخطر على تعددية لبنان وهويته بات محدقاً، الأمر الذي يستدعي التحرُّك السريع حسماً لهذا الصراع أو فرضاً لأمر واقع يحول دون تغيير وجه لبنان، أو تعديلاً في النظام السياسي، بما يضمن العدالة لجميع الفئات اللبنانية واستمراريتها.
وفي حال أظهر النقاش والحوار صعوبة واستحالة توحيد منازل البيت اللبناني، وبانتظار ان تتحوّل المنازل الكثيرة ضمن هذا البيت إلى بيت واحد، فلا بدّ من مرحلة انتقالية تبدأ بتعزيز وضعية هذه المنازل ومكانتها، تجنّباً لانصهارها واضمحلالها وانتفاء وجودها وانهيار البيت اللبناني بمنازله الكثيرة لمصلحة بيت إيراني بغرفة واحدة.
فالتشخيص الدقيق للمؤرِّخ الكبير كمال الصليبي لواقع الحال اللبناني الذي اختصره بعنوان «بيت بمنازل كثيرة»، يجب ان يقود بشكل ثابت وحتمي إلى مسارين لا ثالث لهما: إما إلى حسم المرجعية في القرارات الاستراتيجية للبيت اللبناني من دون شريك، في سياق واقع تعددي يلتئم ويجتمع ويلتقي تحت سقف هذا البيت الذي يمثِّل المرجعية الأولى والأخيرة، وإما أن تكون المنازل ضمن هذا البيت منفصلة تماماً ومتساوية في الحقوق والواجبات، من خلال تكريس مرجعيتها، من دون الحاجة إلى دور البيت الشكلي والصوري. وكل ما هو خلاف ذلك مرفوض كلياً ويشكّل استمراراً لهذا الواقع المريض المتمثِّل بتغييب مرجعية البيت وتحكُّم أحد المنازل بقوة السلاح بقرار المنازل الأخرى واستئثاره بالمرجعية على حساب البيت والمنازل الأخرى معاً، الأمر الذي يشكّل تهديداً وجودياً لهذه المنازل ودورها وحضورها واستمراريتها، وتذويباً لحيثيتها وهويتها، ونسفاً لكل البيت اللبناني بمنازله الكثيرة، لمصلحة منزل لا يشبه لبنان بتاريخه وحاضره وهويته وثقافته وحضوره ودوره وتعدديته…