«الغدر لمن حكم صَبَح الأمان بقشيش والندل لما احتكم يقدر ولا يعفيش والحر مهما انحكم للندل ما يوطيش» (أحمد فؤاد نجم)
ترتكز فلسفة «جان بول سارتر» الوجودية على طرح غريب، يفترض أنّ تعريف الشيء لا يجب أن يبحث في وصف ما هو، بل في تحديد ما ليس هو! فما ليس هو، على المستوى الوجودي للبشر، يحدّد النقص في ما هو، أي ما ينقص البشري لاستكمال وجوده الكامل. الوجود الكامل يفترض الحصول على ما يظنّه الفرد بأنه ينقصه لاستكمال وجوده، أي الحرية المطلقة غير المقيّدة بشيء، وهذا النوع من الحرية يعني التجاوز المطلق لكل الحدود المادية والمعنوية التي يظنّ الفرد أنها العائق أمام استكمال وجوده. فالبشر، منذ وعيهم واستكشافهم لقدراتهم العقلية على تجاوز العالم المادي، يحيون في مرارة عدم الكمال، أو بالأحرى عدم القدرة على استكمال وجودهم النظري.
من هنا، فقد سميت «البشري العاقل» «البشري المتجاوز»، وذلك لسعيه الدائم لتجاوز ما يعوق حريته المطلقة في أن يستكمل وجوده. لا شك في أنّ الحرية المطلقة تعني التصادم مع وجود آخرين، أي أن يكون الإنسان في حال الطبيعة، بحسب وصف توماس هوبس، حيث لا قواعد اجتماعية أو أخلاقية أو قانونية تحدّ من نزعة البشر نحو التجاوز، في ما عدا حدود القدرة الفعلية، وحيث «لكل الحق في فِعل ما يشاء حتى في التعدي على حياة الآخرين». لكن هذا الأمر يعني أنّ الخوف من حرية الآخر في التجاوز والتعدي على حرية الذات، دفعَ البشر الى تسوية سمحت للمجتمعات في أن تستمر، وتستقر نسبيًا. هذه التسوية تقتضي التخلي عن الحرية المطلقة المتجاوزة لحرية الآخر، وبناء منظومة سياسية وعقد اجتماعي يسمح بالعيش معًا في توازن ديناميكي دقيق وغير مؤبّد، مبني على توازن القوى في مختلف نواحي الاجتماع.
هذا يعني أنّ السعي الى مزيد من الحرية يبقى العنوان الوجودي الأعظم للبشري المتجاوز، رغم قبوله بالتسويات التي تحدّ من حرياته المتعددة. فقبول التسويات لا يعني إلغاء «طبيعة البشر المتجاوزة» سعيًا إلى مزيد من الحرية، حتى وإن كان الثمن هو الموت. هذا يفسّر بالطبع الثورات التي يلجأ فيها كثيرون إلى خوض غمار الفناء بالموت، لمواجهة العدمية المتمثّلة بالحدود المفروضة على الحرية. هذا هو تفسيري لمنطق ألبرت كامو حول الانتحار، أو جواز فقدان الوجود المادي في سبيل مزيد من الحرية.
أعتذر مجددًا على طول الاستطراد الفلسفي، وهو قد يمتع البعض أو ينفّر آخرين، لكن قضية الحرية ليست مجرد طرح سياسي، ولا أنا أحاول وضع الكلمة كرمز مقدس، كما يستعملها أصحاب الطروحات السياسية التي أودت بحيوات أعداد لا تحصى من البشر المتجاوزين، إمّا قصدًا، أو بالمصادفة كخسائر جانبية. ولست بساعٍ الى الترويج لنهج سياسي معيّن من دون غيره، فليس هذا موضع مقالتي. فما يهمني، خارج إطار العقائد والنظريات المجرّدة، هو طريقة الخروج من جهنّم لبنان اليوم، في ظل انعدام موضوعي لاحتمال تسوية محلية تؤدي إلى الخلاص. فلا سيطرة عقيدة «حزب الله» المستندة لولاية الفقيه قادرة على إنتاج عقد اجتماعي لبناني مستقر، ولا استمرار استخدام لبنان كقاعدة عسكرية مستدامة لمصلحة مشروع إيران سيخرجنا من التدهور المستمر في كل الأمور التي أوصلتنا إلى دولة فاشلة بكل مقوماتها. لا ينقصنا اليوم لبلوغ هذا الدرك إلا الإعلان الدولي الرسمي لفشل الدولة، أو تحوّلها دولة مارقة.
ما الممكن إذًا؟ الممكن هو الاستمرار في المقاومة السياسية الصلفة لتفادي الخضوع للاحتمالين، والإعلان المستمر عن الالتزام بالدستور الذي يشكل العقد الاجتماعي الرسمي بين اللبنانيين، والذي يبدو أنه السبيل الوحيد للتسوية بين الحريات الفردية والاجتماعية في بلد مثل لبنان، وفي الوقت نفسه ضمان الوحدة، أي منع الجنوح نحو التقسيم. كما الالتزام بمنظومة المصالح العربية التي يبدو أنها الوحيدة القادرة على إنشاء مظلة قادرة على تعديل المسار المتدحرج كارثيًا للاقتصاد والمال في لبنان. والركن الثالث هو اعتبار قرارات مجلس الأمن المعنية بلبنان، وأهمها القرار 1559، خشبات خلاص وطنية، رغم التهديدات المتعددة بأن هذه القرارات هي مشروع حرب أهلية جديدة. فالواقع هو انّ الحرب الأهلية قائمة اليوم وأمس، على الأقل بنتائجها، من خلال ما نراه اليوم من انهيار ودمار، ولم تمنع التقية بخصوص موضوع القرار 1559 والتنصّل منه على المستوى الوطني، اغتيال المتهم النظري بتوليفه، أي رفيق الحريري.
قد يقول البعض وما نفع كل ذلك طالما أنه بديهي، لكنه لم يأت بنتيجة سابقًا؟ وهذا كلام منطقي. لكن التعويل اليوم هو على الحدث الإيراني المتكرر والمتفاقم، أي سعي البشري الإيراني إلى تحقيق وجوده واستكماله من خلال التطلّع إلى مزيد من الحرية. فلم تتمكن عقود طويلة من خنق الحريات الشخصية، في ديكتاتوريات متعددة، من احتواء الطبيعة البشرية في سعيها إلى الحرية، حتى وإن رضخت الى حين. التجربة القريبة كانت في الاتحاد السوفياتي «العظيم»، عندما وصلت طلائع «حرسه الثوري» إلى كل بقعة من العالم. فقد طوّقت منظوماته المسلحة تحت مسميّات شتى، وشعارات عنوانها الحرية والمساواة والمجتمع السعيد والجنة على الأرض، كل العالم تقريبًا، وتسبّبت في طريقها بموت وقهر مئات الملايين من المحازبين المناضلين في سبيلها، أو الضحايا الجانبية في معسكرات الشغل في «الغولاغ»، أو في الثورات الثقافية في الصين، أو في حروب العصابات وخطف رجال الأعمال ووزراء… ومع ذلك، فقد سقطت بمعظمها تحت وطأة التجاوز البشري المؤسس لطبيعتنا، أي ما يجعل منّا ما نحن، وهو السعي الدائم نحو تجاوز الواقع، إلى مزيد من الحرية، حتى وإن كانت تلك الحرية مجرد وهم.
في مقالة سابقة أكدت أنّ خلاص لبنان يبدأ بتلاشي القبضة الإيرانية عنه، وبالتالي تحول إيران دولة منطقية، قادرة على إيجاد تسويات مجدية مع محيطها، وتسعى فعلًا إلى سعادة ناسها ورخائهم، من خلال عقد اجتماعي يضمن مساحة الحرية الممكنة للأفراد، وتلغي، على الأقل، دور شرطة الأخلاق التي تهدر وقت الناس بقياس غطاء الرأس ومدى اقترابه من مواصفات الشادور. وللتذكير فقط، فقد كان للمنظومات الديكتاتورية الأخرى لباس موحّد كان يُقاس التزام الناس على أساسه. إن استعادة شعب إيران حريته من قبضة الأساطير السياسية العقائدية، إن كان اليوم مطلبًا يخص شعب إيران، لكنه يجب أن يكون تمنيًا يشمل كل شعوب المنطقة التي حلّت عليها لعنة الحرس الثوري، وتحوّلت مسارح للموت والدمار والفقر والقهر، دفعت بعض ناسها إلى العدمية المتمثّلة بمراكب الموت، هربًا من فقدان الأمل بالفرج والخلاص.
قد يبدو الأمر ضربًا من التمنيات، وأن منظومة الولي الفقيه ما زالت تراكم الانتصارات يومًا بعد يوم، وأنها تزداد منعة الى درجة أنّ العالم يلهث وراء الاتفاق معها، لكنها، كما كل أنظمة القمع في العالم، وكما تقول حنة أرندت: «قد تبدو أنظمة الشمولية قائمة إلى الأبد، إلى أن تنهار في لحظات!». وما علينا إلا الصبر والاستمرار في المقاومة.