في الوَقتِ الذي يَنوءُ فيه اللبنانيون من وَطأةِ الأزمَةِ المِعيشِيَّةِ الخانِقَة، وتَلهِّي السِّياسِيينَ في مُماحَكاتٍ سِياسِيَّةٍ لا طائلَ مِنها سِوى عَرقَلَةِ تَشكيلِ حُكومَةٍ لا يُرجَّى الأملُ منها في لَجمِ الانهيارِ الاقتِصادي والمالي، ورَأبِ التَّصدُّعاتِ السِّياسِيَّةِ المُستفحِلَةِ بين مُختلِفِ المُكوِّناتِ السِّياسِيَّةِ اللبنانيَّةِ التي أوصَلَت لبنان بأدائها الهابِطِ إلى لُجٍّ هائِجٍ مائجٍ تَتلاطَمُ على سَطحِهِ أمواجٌ من الأزَماتِ السِّياسِيَّةِ والاقتِصادِيَّةِ والمالِيَّةِ والمَعيشِيَّةِ والتي تُنذِرُ بعَدَمِ استِقرارٍ أمنيٍّ في ظِلِّ ارتِفاعِ مُعدَّلِ الجَريمَةِ عامَّة.
كلُّ هذا يحدُثُ ومِنطَقَةُ الشَّرقِ الأوسَطِ تَقبَعُ على صَفيحٍ مُلتَهبٍ، نتيجةَ الاحتِقانِ السِّياسي والذي وصلَ إلى أقسى دَرجاتِ الغليان، ويُنذِرُ بأن المِنطَقَةَ على وَشكِ انفِجارِ بُركانٍ ذي طابعٍ عَسكريَّ سيُغيِّرُ وَجهَ الطَّبيعَةِ الجيوسياسيَّةِ لمِنطَقَةِ الشَّرقِ الأوسَطِ برُمَّتها، بعد أن اعترى خَلَلٌ كبيرٌ عوامِلَ الاستِقرارِ التي كانت تَحكُمُ أُسُسَ التَّوازُنِ فيها، ومالتِ الدَّفَّةِ كُلِّيَّاً لِصالِحِ الجُهورِيَّةِ الإسلامِيَّةِ في إيران على حِسابِ الدُّولِ العَربِيَّةِ المُتهالِكَة، وذلك مُنذُ ما يَزيدُ عن العَقدينِ من الزَّمن.
تَتَحَمَّلُ الثَّورَةُ الاسلامِيَّةُ في إيرانَ تِبعَةَ الإخلالِ بالتَّوازُناتِ التي كانت قائمَةً، والذي تأتَّى عن نزعتِها الثورِيَّةِ التَّوَسُّعِيَّةِ القائمَةِ على إيديولوجيا تَصديرِ الثَّورَةِ إلى البُلدان المُجاوِرَة. وإن كانَت مَعظمُ تلك البُلدانِ لم تُخفِ توجُّسَها من تلك النَّزَعاتِ التي أوحَت لها أن النِّظامَ الثَّوري يُضمِرُ لها شَرَّاً مُستطيرا، لأنَّ تطلُّعاتِهِ تَستهدِفُ تَقويضَ النُّظُمِ القائمَةِ في مُختلِفِ الدُّولِ المٌجاورَةِ، وذلك سَعياً لاستِعادَةِ أمجادِ الإمبراطورِيَّةِ الفارِسِيَّةِ، من خِلالِ إثارَةِ النَّعراتِ الفِئويَّةِ والمَذهَبِيَّةِ بالتَّحديدِ بين أبناءِ الدَّولَةِ الواحِدَة تمهيداً لتَفكُّيكِها أو لإِحكامِ السَّيطرَةِ عليها.
كان الرَّئيسً العِراقي السَّابقُ صدَّام حُسين أولَ المُتنبِّهينَ لهذا الخَطرِ الماثلِ في النَّزعَةِ التَّوسُّعيِّةِ لدى مُنظِّري الثورَةِ الإيرانيَّة، حيثُ خشي على نِظامِهِ البَعثي العِلماني، نَظراً لخُصوصِيَّةِ تَركيبةِ الشَّعبِ العِراقي المُتوزِّعَةٍ عقائديَّاً بين مَذهبي السُّنةِ والشِّيعَةِ مع وجودِ أقليَّاتٍ من طَوائفَ ومَذاهِبَ أُخرى إسلامِيَّةٍ ومَسيحِيَّةٍ كالكلدانيَّة والأيزيديَّة والصَّابئة وغيرِها. ولم يتوان صدَّامُ عن التَّصدِّي لهذا المَشروعِ رَغمَ عِلمِهِ المُسبَقُ بالكِلفةِ العاليَة، ناظِراً له على أنَّهُ خَطَرٌ مَصيريٌّ يُهدِّدُ المَنظومَةَ العَرَبِيَّةَ برمَّتِها وبخاصَّةٍ مِنطَقَةُ الخَليج العَربي، فَخاضَ حَرباً ضَروساً مع هذا النِّظامِ مَدعوماً من مُختلِفِ دُوَلِ الخَليجِ العَربي التي كانت تُشارِكُهُ الهَواجِسَ ذاتِها.
رَبحَ صَدَّامُ حُسين الحَرب عَسكريَّاً، وكان أوَّلَ من يكسِر شَوكَةَ النِّظامِ الثوري الإيراني مُلحِقاً به خَسائرَ جَسيمَةٍ في الأرواحِ والمُمتلكات، وأرغَمَهُ على الإذعانِ لوَقفِ القِتال. هذا الانتِصارُ ولَّدَ لدى صَدَّام حُسين شًعوراً بالعَظَمَة، الأمرُ الذي لم يَرُق لمُعظَمِ جيرانِه «حُلفاءِ الأمسِ» أي داعِميهِ بحَربِهِ في وجهِ إيران، وتأكَّدت هواجِسُهُم من نزعَتِهِ الفَوقِيَّةِ باجتياحِهِ لدولةِ الكويت التي نَعَتَ صدَّام أميرَها بالمُتآمِرِ، مُتذرِّعاً بتنازُلِهِ عن الديونِ المُستحقَّةِ على العراقِ لصَالِحِ شَرِكاتٍ أميركِيَّةٍ للتَّضييقِ على العِراق، في الوَقتِ الذي كانَ يُدافِعُ عنها وعَن باقي دُوَلِ الخليجِ العَرَبي في وَجهِ عَدوِّهِم المُشترَك «أي إيران». لقد شكَّلَ اجتياحً صَدَّام للكويت خَطيئةً كُبرى مَهَّدَت الطَّريقَ للأميركيين للعبثِ في المنطقةِ والتَّخلُّصِ من نِظامِهِ الذي كانَ يُشكِّلُ بالنِّسبَةِ للكِيانِ الإسرائيلي خَطَراً عَسكَرِيَّاً حَقيقيَّا، على خِلافِ باقي الدُّوَلِ العَرَبيَّة، هذا الخطأ كان مُميتاً بالنِّسبَةِ لنِظامِ البَعثِ في العِراق، وجَعلَ من صدَّام نفسِهِ أُضحِيَةً، بحيثُ أُعدِمَ صَبيحَةَ يومِ عيدِ الأَضحى عام 1426هـ أي 2006م على يَدِ من انتَصرَ عليهم وألحَقَ بهم هزيمَةً نكراء.
لقد استِفادَ النِّظامُ الإيراني من الحُروبِ العَبَثيَّةِ التي شنتها الإدارَةُ الأميركِيَّةُ في عَهدِ الرَّئيسِ جورج بوش الإبن، بل أحسَنَ استِغلالَ النَّصرِ العَسكريُّ الذي أحرَزتهُ الوِلاياتُ المُتَّحِدَةُ الأميركِيَّةُ في حَربيها على كُلٍّ من أفغانستانَ والعِراقِ تحت ذَرائعَ مُختلِفَةٍ، تارَةً تحت عُنوانِ الحَربِ على الإرهاب، وتارَةً أُخرى بَحثاً عن أسلِحَةٍ الدَّمارِ الشَّامِلِ في العِراق. نعم لقد دَفعَت الوِلاياتُ المُتحِدةُ وحُلفاؤها الغَربيونَ فاتورةً بَشرِيَّةَ في كِلتا الحَربينِ المًنوَّهِ عنهُما، وتكفَّلَت بعضُ دُوَلِ الخَليجِ العَرَبي بتَغطِيَةِ نَفقاتِها. في المًقابِلِ استطاعَت إيرانُ ومن دون أيَّةِ كلِفَةٍ تُذكَرَ أن تَستقطِبَ مُناوئي النِّظامِ البَعثي وغَيرِهِم من الوصوليين، لتُحكِمَ سَيطرَتَها على أرضِ بلادِ ما بين النَّهرين رَغمَ الوجودِ العَسكري الأميركي والحاكِمِ العَسكري الذي نَصَّبَتهُ إلادارَةِ الأميركِيَّةُ لإدارةِ شؤونِ العِراقِ وإن شكَّلت سُلطةً محليَّةٍ اعتمدتها كواجِهَةٍ لتَحكُمُ العِراق، بعدَ أن مهَّدت لذلك بقرارٍ قضى بحَلِّ الجيشِ العِراقي.
لقد قامَ النِّظامُ الإيرانيُّ على إيديولوجِيَّةٍ دينيَّةٍ مَذهبِيَّة مُنذُ نشأتَه، وأحاطَ مُنظِّريهِ بهالةٍ من التَّسمياتٍ الدِّينيَّةِ التَّبجيليَّة (أيةُ الله، روحُ الله….)، وعزَّز مَكانتَها بجَيشٍ مُخابراتِي رَديفٍ على حِسابِ الجيشِ النِّظامِي، وبعدَ أن راقَ لها ما يَتمتَّعُ به الحَرَسُ الثَّوريُّ الإيرانيُّ الذي أنشأتهُ ليكونَ المُرتَكَزَ الأساسِيَّ لحِمايَةِ النِّظامِ الثَّوري داخلَ إيران، واعتمادَهُ كأداةِ قَهريَّةِ لإخضاعِ خُصومِ الدَّاخِلِ والتَّنكيلِ بهم، كما ليكونَ ذراعاً فاعِلَةً لمُناوءَةِ الأعداءِ في الخارِجِ، من خِلال ِعَمليَّاتٍ مُخابراتِيَّةٍ تَتَمتَّعُ بالسِّريَّةِ لكي يَصعِّبَ إلصاقُ أيِّ تُهمةٍ إرهابيَّةٍ بالنِّظامِ أو تَحميلُهُ المَسؤوليَّةَ عنها. وعَمَدَت إلى تَعميمِ هذه التَّجرُبَةِ في مُختلِفِ الدُّولِ العَربيِّةِ التي سَعَت للسَّيطرَةِ عليها مُستفيدةً من وجودِ مُكوِّناتٍ شَعبِيَّةٍ تنتمي إلى المَذهبِ الشِّيعي الكريمِ الذي يَعتَنِقُهُ نِظامُ الحُكمِ في إيران، بعدَ أن همَّشت المَرجَعياتِ الشِّيعيَّةِ العربيَّةِ الانتِماء، وكان أوَّلُ تلك التَّنظيماتِ حِزبُ الله في لبنان، ومن ثمَّ الحَوثيونَ في اليَمنِ والحَشدُ الشَّعبي في العِراقِ وأنصارُ النِّظامِ في سوريا.
حَرِصَت إيرانُ على تَدريبِ أذرُعِها العَسكريَّةِ الخارجِيَّةِ، التي كوَّنتها من تابعي الدُّولِ التي تغلغَلت فيها، تَدريباً مُتقَنا، كما زوَّدَتها بأفضِلِ ما لدَيها من أسلِحَةٍ وتَجهيزاتٍ مُصنَّعَةٍ إيرانيَّا، أو مما استَحصَلَت عليه من مَصادِرَ خارِجِيَّةٍ مُختلِفَة، وبخاصَّةٍ الأسلِحَةِ المُتوسِّطَةِ المُضادَّةِ للدُّروعِ والصَّواريخِ البالِستِيَّةِ القَصيرَةِ والمُتَوسِّطَةِ المَدى، وأخيراً المُسيَّراتُ المُحمَّلةُ بالمُتَفَجِّراتِ، كتلك التي استُعمِلَت وتُستَعمَلُ في الاعتِداءاتِ على المَطاراتِ والمُنشآتِ النَّفطِيَّةِ وغَيرِها من المَرافِقِ الحَيويَّةِ في المَملكَةِ العَربيَّةِ السُّعوديَّة.
لقد استَفادَت إيرانُ من حالَةِ الوَهنِ التي اعتَرَت السِّياساتِ الأميركيَّةِ وبخاصَّةٍ في عَهدِ الرَّئيسِ أوباما، والذي تَبنى سِياسَةَ الاستِيعابِ والمُهادَنةِ مُبتعِداً عن اللُّغاتِ الحاسِمَةِ التي كان يَعتَمِدُها أسلافُهُ من رؤساءَ جُمهوريين وديمقراطيين، والذين كانوا يتبنونَ لغَةً أكثرَ حَزماً تقومُ على التَّهديدِ تارَةً وتَحديدِ خُطوط ٍ حُمرِ تارَةً أُخرى. واستبدلَها بإيديولوجِيَّةٍ مدنيَّةٍ – عَسكرِيَّةٍ مُستحدثةٍ تَقومُ على دَفعِ العَدوِّ أو الخَصمِ للتَّخبَّطِ داخِلِيَّاً إلى أن يَصِلَ إلى حالَةٍ من الاهتِراءِ الدَّاخلي تَحت وَطأةِ فِتَنِ دَاخِلِيَّةٍ وتَضييقٍ اقتِصادي وتِكنولوجي يَصِلُ إلى حَدِّ الحِصار، باعتِمادِ عُقوبات ٍ اقتِصادِيَّةٍ دَولِيَّةٍ صارِمَةٍ وعُزلَةٍ سِياسِيَّةٍ مُحكَمَة، تمهيداً للانقِضاضِ عليهِ بضَربَةٍ قاضِيَة. وفي عَهدِ دونالد ترامب المُتشدِّدِ والمُبالغِ بسُلوكِيَّاتِه الابتزازيَّة، تَبنَّت الأخيرَةُ مَنهجِيَّةَ امتِصاصِ الصَّدَماتِ وتَفويتِ فُرَصِ إقحامِها بمُواجَهاتٍ عَسكَرِيَّةٍ مُباشِرَةِ معِ الوِلاياتِ المُتَّحدَةِ الأميركِيَّة، والتي كانت تَسعى إسرائيلُ دائماً لزَّجِّها بها، من خِلالِ التَّحريضِ عليها وتَضخيمِ أنشِطَةِ إيرانَ النَّوويَّةِ، والتَّأكيدِ على سَعيها لامتِلاكِ سِلاحٍ ذَرِّي في أوَّلِ فُرْصَةٍ قد تُتاحُ أمامَها.
بعدَ نجاحِها في تَمريرِ ولايَةِ ترامب الرِّئاسيَّةِ بأقلِّ الخسائرِ رغمَ إلغاء الأخيرِ للاتِّفاقِ النَّووي الذي أُبرِمَ في عَهدِ سلفهِ، سَعَت إيرانُ مع مَجيء خَلَفِهِ بايدن، والذي كان أحَدَ أهمِّ مُعاوني أوباما، لكَسرِ حالَةِ التَّموضِعِ العِدائي بين الدَّولتين، ونجَحَت في إقناعِ الإدارَةِ الأميركيَّةِ الحاليَّةِ بالعَودَةِ إلى طاولةِ التَّفاوضِ لحَلِّ المَشاكلِ العالِقَةِ والعملِ على إحياءِ الاتِّفاقِ النَّوَوي السَّابِقِ ولو بصيغَةٍ مُنقَّحَةٍ أو مُعدَّلَةٍ، صيغةٌ تَحفَظُ لكِلا الفَريقينِ ماءَ الوَجهِ تِجاهَ المُجتَمَعِ الدَّولي. إلاَّ أن هذا الأمرَ لم يَرُق للكِيانِ الإسرائيلي الذي يَخشى تَعاظُمَ سَطوَةِ إيران إقليمِيَّاً مُستفيدَةً من ترسانتِها الصَّاروخِيَّةِ البالِستِيَّةِ التي شَهِدَت تَطوُّراً جَوهَرِيَّاً من حيثُ زِيادَةِ مَداها ودِقَّتها، وإن تكُن لا تزالُ مُتخلِّفَةً عن رَكبِ الصَّواريخِ البالِستيَّةِ العصريَّة. وفي هذا الإطارِ كانت تَصُبُّ الزِّياراتُ المَكوكِيَّةُ لرَئيسِ وزراءِ إسرائيل السَّابِقِ نتنياهو إلى الولاياتِ المُتَّحِدَةِ الأميركِيَّةِ وروسيا والدُّولِ ذاتِ التَّأثيرِ في الاتِّحادِ الأوروبي.