حكومة أو لا حكومة، رئاسة أو لا رئاسة؟ ليست تلك هي المسألة. فهذه من الضرورات، أقله للحفاظ على الحد الأدنى من المظاهر والمشاغل. المسألة هي أن الجمهورية مريضة وتعاني إشتراكات خطيرة جداً. والمشكلة أن الأطباء الذين يعالجونها مرضى. والمشكلة الأكبر أن الجمهور الذي يدفع يومياً الثمن الباهظ من حياته ورزقه لمرض الجمهورية يقف في الطوابير ويبدو مستسلماً لقدره بدل أن يثور، لكنه مستعد ومستنفر للتقاتل من أجل أمراء الطوائف.
والمشكلة الأخطر أن الطرف الذي يلعب الدور الأكبر، الى جانب الأطراف الأخرى، في مرض الجمهورية مستمر في العمل على إقامة “كيان” منفصل عن لبنان ومتصل به في آن. منفصل عنه لإقامة “ولاية” شابة قوية تنمو وتكبر ولها جيشها وإستخباراتها وإقتصادها وسياستها الخارجية ومحاكمها ودورها الإقليمي وتتحسب لوراثة الجمهورية. ومتصل به لضمان الغطاء الشرعي والإمساك بالسلطة لأن وقت الوراثة لم يأتِ بعد. ولذلك يتحمس لإبقاء المريض يتنفس من خلال الأجهزة الإصطناعية. فلا حكومة إن لم يكن قادراً على التحكم بها. ولا رئيس إن لم يكن مرتبطاً به وحريصاً على إبقاء الجمهورية مريضة والإكتفاء بالمظاهر والألقاب.
هناك بالطبع من يتصور أن الحل الداخلي للمشكلة الأخطر ممكن على الطريق الى تعافي الجمهورية. لكن الأغلبية تراهن على تطورات دراماتيكية خارجية، لأن اللعبة المحلية ضيّقة والملعب إقليمي ودولي. فالبلد صار في نظر اللاعبين مساحة جغرافية مفتوحة. وهو جبهة أمامية، لا فقط تحت عنوان المواجهة مع إسرائيل بل أيضاً لحماية المشروع الإقليمي الإيراني والعمل له. والكل يعرف كيف جرى إنهاء المقاومة الوطنية للإحتلال الإسرائيلي، لكي تأخذ مكانها مقاومة إيديولوجية مذهبية تموّلها وتسلّحها إيران وتربطها بفيلق القدس التابع للحرس الثوري، ثم تصبح مقاومة إسلامية دائمة بعد “عيد المقاومة والتحرير” في بلد من 18طائفة.
وليس صدفة ما يبدو نوعاً من العودة الى تحريك العامل الفلسطيني في لبنان من خلال حركة “حماس” بعدما دفع البلد الكثير ثمن التجربة المرة للفصائل الفلسطينية تحت عنوان التحرير من لبنان. فالحركة واسعة في “محور المقاومة” الذي تديره طهران ويشمل اليمن والعراق وسوريا ولبنان وغزة، ويشكل جبهة واحدة تتحرك بقرار واحد. والجديد حالياً هو السعي سراً وعلناً لقيام محور آخر في مواجهة المحور الإيراني. محور يراه البعض على شكل “ناتو” إقليمي تقوده أميركا، وهو أمر صعب. ويتحدث البعض الآخر عن “ناتو” عربي ما دامت قضية فلسطين بلا حل. وهو ليس سهلاً. ويتصور كثيرون أنه سيكون “منظومة أمنية” تعتمد التنسيق بين قوى عدة لمواجهة “الخطر الإيراني”. ولبنان في أية حال يبقى واحداً من المسارح في كل مواجهة. ولا يبدل في الأمر وجود رئيس وحكومة وبرلمان في جمهورية مريضة.
يقول جورج أورويل في كتاب “1984”: “من يسيطر على الماضي يسيطر على المستقبل، ومن يسيطر على الحاضر يسيطر على الماضي”. وما يحدث في لبنان هو الإمتحان العملي لتحقيق ذلك.