ليس اجتماع قادة من «حماس والجهاد الإسلامي والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين وأنصار الله الحوثيين» في بيروت سوى تفصيل فرعي تحت عنوان عريض هو التحرّك ضمن «وحدة الساحات». ولا «وحدة الساحات»، بما تفرضه من تنسيق بين الجبهات لإسناد «حماس» في حرب غزة، سوى تنفيذ عملي لجانب من استراتيجية «محور المقاومة». ولا «محور المقاومة» سوى مسار لتحقيق مشروع إقليمي إيراني متعدّد المراحل والفصول، تبدو قضية فلسطين والصراع مع إسرائيل واحدة من الأوراق والأسلحة المهمّة في يده. وما يراد للبنانيين أن يسلّموا به هو أن الوقت فات على التذكير بالسيادة والتحذير من تكرار التجربة الفلسطينية المسلحة في لبنان والتي قادت إلى دخول عسكري سوري واجتياح إسرائيلي وألعاب إقليمية ودولية في وطن سمّي «ساحة».
ذلك أن السلطة تخلّت عن السيادة عندما كانت كاملة الأوصاف قبل الطائف وبعده، حتى صارت سلطة فاقدة الرأس، بقاياها تصرّف الأعمال وتغطي التخلّي عن السيادة إمّا بالصمت وإمّا بكلام أخطر من الصمت يضعه في فمها صاحب السلاح. فهي تخلّت عن السيادة أولاً للفصائل الفلسطينية، وثانياً للوصاية السورية، وثالثاً للنفوذ الإيراني عبر «حزب الله»، ورابعاً ودائماً لكلّ اللاعبين في المنطقة والعالم والاتكال عليهم لتسوية مشاكل وأزمات محلّية. والتخلّي عن السيادة هو بداية التخلّي عن بناء دولة على قياس وطن.
وأوضح صورتين معبّرتين عن المشهد المخيف هما: فتح الجبهة الجنوبية وإغلاق الملف الرئاسي. فالأكثرية الرافضة انفراد «حزب الله» بفتح جبهة حرب في بلد مفلس منهك يتعرّض لخسائر كبيرة، عاجزة عن التأثير على قرار يأخذ البلد والناس إلى حرب استنزاف بلا أفق سياسي ولا زمني، مرشحة لأن تتحوّل حرباً مفتوحة مدمّرة. وكلّ ما يتحرّك حول الشغور الرئاسي هنا وفي الخارج هو دوران في الفراغ. وليس تأخّر البحث العملي في الملف الرئاسي إلى بعد نهاية حرب غزة ومضاعفاتها سوى استخفاف بالعقول. فالتعطيل الذي فرض الشغور الرئاسي بدأ قبل سنة من حرب غزة واستمرّ بعدها. والقوة المعطلة هي التي تتحكّم حتى بالدستور.
والقول إنه ليس لدى «حزب الله» وقت للتفكير في الملف الرئاسي والقضايا الداخلية لأن كل اهتمامه منصبّ على الحرب، هو استهزاء بلبنان لا فقط بالرئاسة. فالمصلحة الوطنية تحتّم انتخاب رئيس وإعادة النظام العام إلى المؤسسات في مواجهة الحرب وانتظار التفاوض أكثر من الأيام العادية. ولا حرب لإسناد «حماس» أو سواها لها أولوية على الأولويات المتعلّقة بانتظام الحياة السياسية وبدء النهوض الاقتصادي في لبنان. إلا إذا كنّا رهائن مشروع يقول أصحابه ضمناً للبنانيين: لا حاجة إلى رئيس، ولا حاجة إلى لبنان الذي كان.
والواقع أنّ التلاعب باتفاق الطائف جعل الشراكة والمناصفة مجرّد شكل جرى إفراغه من المحتوى. وما قادت إليه سياسة الاستقواء بقوة السلاح و»محور المقاومة» وممارسة الغطرسة على الطوائف هو السعي لتكريس وضع غير طبيعي: «الثنائي الشيعي» هو الحاكم، وبقية الطوائف في دور المعارض الذي لا وزن لرأيه. وهذا ضد طبائع الأمور وحقيقة لبنان وهويته ودوره التاريخي. والدرس مكتوب على الجدار، في قول المؤرخ أرنولد تويني: «كلّما عظم التحدّي اشتدّ الحافز» للاستجابة والمواجهة.