لبنان النأي بالنفس ليس خارج الصراع الجيوسياسي في المنطقة وعليها. لا كدور، وهو ما يقوم به حزب الله في سوريا وسواها. ولا كموقع، وهو ما تقاطعت مصالح وحسابات محلية واقليمية ودولية على ابقائه مستقرا خارج النيران، لضمان ما يقدمه من خدمات يحتاج اليها المتصارعون وضحاياهم من النازحين عن ارض المعارك. وحرب سوريا هي بالطبع مركز الصراع الممتد الى العراق واليمن وبلدان عدة.
والكل هناك. داعش والنصرة لم يختفيا. روسيا واميركا وايران وفرنسا وتركيا بشكل مباشر عسكريا. دول عربية تسلح وتمول تنظيمات عسكرية معارضة. واسرائيل في الجو تختار الاهداف التي تقصفها. وها هو الرئيس فلاديمير بوتين يعلن ان العمليات العسكرية الواسعة، وضمنها تلك التي تشارك فيها قواتنا المسلحة انتهت حاليا في سوريا، ولا ننوي سحبها، فنحن هناك لتأمين مصالح روسيا في هذه المنطقة ذات الاهمية الحيوية. لكن حرب سوريا لم تنته، ولا تزال تفرّخ حروبا.
ولا مجال لتأليف حكومة قابلة للحياة في لبنان من دون وضع الصراع الجيوسياسي في الحساب. فالعوامل الضاغطة على عملية التأليف متعددة. بعضها ظروف الالحاح على السرعة في التأليف. وبعضها الآخر كوابح للاستعجال. وما يشغل المسرح هو، بطبائع الامور في لبنان، حديث الاحجام والاوزان التي خرجت من صناديق الاقتراع والمطلوب تركيب الحكومة وتوزيع الحصص والحقائب على اساسها. وما يدار به التنافس هو الخلاف على مقياس الاوزان والاحجام وهل هو فقط عددي ام ايضا سياسي، وبالتالي على التوازن او اللاتوازن بينها.
لكن ما يشغل الكواليس هو سؤال حائر ومحرج حول الضغوط المتعاكسة في سوريا ولبنان على موضوعين ليسا في عزلة عن بعضهما بعضا: كيف يمكن الجمع بين انحسار الوجود العسكري الايراني في سوريا بالضغوط الاميركية والاوروبية والخليجية والتهديدات الاسرائيلية والرهان على صفقة مع روسيا، وبين امتداد النفوذ الايراني المتوسع داخل مؤسسات السلطة بضغوط محلية واقليمية وبقوة الاشياء والأمر الواقع؟ هل يستطيع لبنان ان يدفع ثمن اخذه بالكامل الى المحور الايراني وخسارة المساعدات الدولية او ان ينحاز بالكامل الى المحور السعودي ومواجهة ضغوط محلية واقليمية قوية؟ وهل هناك فرصة لأن يبقى في الوسط بين المحورين؟
اذا كانت الاولوية، كما يقول الجميع، هي لمعالجة الاوضاع الاقتصادية والمالية الصعبة ومكافحة الفساد، فان حكومة الجرأة على الاصلاح وجذب الاستثمارات تفرض نفسها عبر تبادل التنازلات بين الاطراف. وآخر ما يوحي اننا جادون في محاربة الفساد وسط فائض الفاسدين لدينا هو استيراد فاسدين.