أعلنت القيادة المركزية الأميركية انّ قواتها «شنّت غارات جويّة في العراق وسوريا، ضد فيلق القدس التابع للحرس الثوري الإيراني وجماعات الميليشيات التابعة له الذين سهّلوا الهجمات ضد القوات الأميركية وقوات التحالف»، وهذا يعني تحميل المسؤولية لإيران أولاً، وتحييد أراضيها عن الضربة العسكرية ثانياً، لماذا؟
حرصت واشنطن، منذ عملية «طوفان الأقصى»، على تحييد طهران والسعي لحصر الحرب في غزة وعدم توسيع رقعتها، فيما تعاملت طهران مع الحرب ضمن حَدّي تحييد نفسها عن المواجهة المباشرة مع إسرائيل، وترسيم حدود انخراط أذرعها في الحرب، وقد يكون مفهوماً الحرص الأميركي على تَجنّب حرب إقليمية، ولكن ما هو غير مفهوم يكمن في كيفية التوفيق بين تشخيصها الدقيق لدور الميليشيات الإيرانية في الإقليم والتي تعمل على زعزعة الاستقرار بقرار وتوجيه وتمويل إيراني، وبين ردودها الموضعية والمحدودة ضد فروع الحرس الثوري في سوريا والعراق واليمن وليس ضد المركز في طهران؟
وبمعزل عن تحييد واشنطن لطهران في ضربتها الأخيرة، فإنّ سياسة التحييد تحوّلت إلى استراتيجية أميركية ثابتة في تعاملها مع إيران، إذ باستثناء العقوبات ربطاً بالملف النووي حصراً، فلا اكتراث أميركياً للدور الإيراني التوسعي عن طريق الميليشيات والعنف، خصوصا ان إيران هي الدولة الوحيدة في العالم اليوم التي تتمدّد عُنفياً خلافاً للقوانين الدولية وتهدِّد الاستقرار الإقليمي وتضع يدها على عدة دول عربية، وهناك أكثر من نظرية لهذا التموضع الأميركي الانسحابي حيال إيران:
النظرية الأولى تقول ان الولايات المتحدة لها مصلحة في الاستثمار في الخلاف بين السنة والشيعة، ولن تكون في وارد حسم الصراع لمصلحة فئة ضد أخرى كَون مصلحتها في تأجيجه لا لجمه، الأمر الذي يجعل الدول العربية بحاجة أكثر إليها، ويُبقي إيران معزولة وتحت السقف، وقد عزّز هذا التوَجُّه أحداث أيلول 2001.
النظرية الثانية تقول انّ واشنطن ليست شرطي العالم، وتَصدّيها للنووي الإيراني هو بسبب خطورته الدولية والإقليمية، وهذا لا يعني موافقتها على الدور الإيراني، إنما لن تخوض حرباً للجمه، والدول المنزعجة منه من مسؤوليتها التصدّي له.
النظرية الثالثة تقول انه من الخطأ التعامل مع الولايات المتحدة وكأنها وحدها في هذا العالم الذي يتحرّك وفقاً لإيقاعها، وليس تفصيلاً أساساً أن تخوض حرباً ضد إيران في ظل سؤال عن اليوم التالي بعد التجربتين الفاشلتين في أفغانستان والعراق، ولولا أحداث 11 أيلول لما اندفعت في حروبها ضد نظامَي طالبان وصدام، ولن تندفع في حرب ضد إيران سوى في حال اقترابها من التحوّل إلى دولة نووية.
النظرية الرابعة تقول ان التركيز الأميركي على النووي وإهمالها الدور الإيراني سببه خشيتها من استهداف إسرائيل نووياً بما يؤدي إلى إزالتها من الوجود، فيما الدور يشكّل تهديداً للدول العربية لا إسرائيل، والأخيرة استفادت من هذا التهديد الذي دفع هذه الدول إلى التطبيع معها، ولولا الخشية العربية من الدور التوسعي الإيراني لما اقتربت من إسرائيل وتصالحت معها.
فقبل «طوفان الأقصى» كانت إيران، بالنسبة لإسرائيل، العدو الذي يخدم مصالحها الاستراتيجية: يُقرِّب الدول العربية والسنية منها، يُسقط مشروع الدولتين بسلاح فلسطيني، يحمي حدودها الشمالية. في غلاف غزة لم تكن تشعر بأي تهديد عسكري ضدها بسبب اطمئنانها لحركة «حماس»، والدليل انّ دولة عسكرية وأمنية مثل إسرائيل كانت تجهل كلياً استعدادات الحركة العسكرية. وفي غلاف جنوب لبنان رسمّت بحريّاً وأبدَت استعدادها للترسيم البري وتعاملت مع «حزب الله» كنسخة مكررة عن نظام آل الأسد.
ولكن أحداث 7 تشرين بَدّلت في عمق النظرة الإسرائيلية التي باتت ترى انّ الدور الإيراني لا يقل خطورة عن النووي، ومعلوم انه في الشرق الأوسط وفي المسائل المتعلقة بأمن إسرائيل تقف واشنطن خلف تل أبيب لا العكس، وقد اعتبرت إسرائيل ان استمرارية وجودها يستدعي أولاً، كهدف مرحلي، إخراج ذراع إيران من داخل كيانها وإبعاد الذراع الأخرى عن حدودها. ويستدعي ثانياً، كهدفٍ نهائي، القضاء على الدور الإيراني، لأنّ نهاية الحرب القائمة لن تكون سوى نهاية لجولة تُبعد إيران من داخل إسرائيل وعلى حدودها، ولكن الحرب بينهما ستستمر فصولاً.
وبعد ان شكّل «طوفان الأقصى» تهديدا وجوديا لإسرائيل، فهل ستكتفي تل أبيب بتحصين داخلها وحماية حدودها واعتبار حربها الأخيرة آخر حروبها، أم انها ستعدّ العدة لمواجهة مباشرة مع إيران بحجّة انه طالما انّ نظام نشر الثورة المسلحة قائم طالما انّ الخطر الوجودي عليها موجود؟ وهل ستنجح تل أبيب بجرّ واشنطن إلى مواجهة مع طهران؟ وهل أصبح خطر الدور الإيراني بنفس منزلة خطر النووي؟ وهل المواجهة التي أطلقتها «حماس» في 7 تشرين فتحت مواجهة إقليمية لن تنتهي قبل التخَلّص من الدور الإيراني؟ وهل يستمر التغاضي الأميركي عن الدور الإيراني؟
لم يعد من السهولة على الولايات المتحدة التغاضي عن الدور الإيراني التوسّعي بسبب اللوبي اليهودي الذي سيمارس أقصى ضغوطه على الإدارات الأميركية من أجل ان تضع حداً لدور إيران وإلّا سيبقى مصير إسرائيل بخطر، ولو عادت الأمور لواشنطن لَما حَرّكت ساكناً وحافظت على الستاتيكو القائم، ولكن الأمور اليوم تتعلّق بأمن إسرائيل، وهذا يعني انّ وضع إيران أصبح على المحكّ في ظل انتقال تل أبيب من استراتيجية التعايش مع إيران إلى مواجهتها، والانتقال الحتمي لواشنطن من استراتيجية الحياد حيال طهران إلى التصدّي لدورها.
فلن تعود المنطقة إلى ما كانت عليه قبل 7 تشرين، ليس فقط لأنّ تل أبيب لن تتراجع عن مواجهتها المرحلية ضد الأذرع الإيرانية ومواجهتها النهائية ضد المركز، بل لأنّ إيران التي ستخرج من حرب 7 تشرين بخسائر لا تعدّ ولا تحصى ستعدّ العدة لمواجهة جديدة في ظروف مختلفة في محاولة لردّ اعتبارها، ومن أبرز الخسائر التي تكبّدتها: النهاية الحتمية لمشروع «حماس» داخل فلسطين، الابتعاد الحاسم لـ»حزب الله» عن الحدود، تلقّي الميليشيات العراقية والحوثية ضربات موجعة، وعدم تجرّؤ إيران على الدخول في الحرب.
وإذا كان الفصل الأول من حرب «طوفان الأقصى» لن ينتهي قبل إخراج «حماس» من غزة وإبعاد «حزب الله» عن الحدود، فإنّ الفصل الثاني للحرب سيكون من إعداد إيران من جهة، وإسرائيل وأميركا من جهة أخرى، لأنّ هذه الحرب لن تنتهي قبل: إمّا زوال إسرائيل وإمّا زوال الدور الإيراني. والأكيد انّ الحرب الباردة التي كانت قبل 7 تشرين بين تل أبيب وطهران ستنتقل إلى ساخنة، ولن تنتهي هذه الحرب قبل تغيير إيران لدورها أو تشييد جدار لمحاصرتها، وستكون سوريا محور الحدث بفِعل جغرافيتها الاستراتيجية، لأنّ مجرّد إقفال الحدود العراقية-السورية يعني خسارة إيران لأوراقها الفلسطينية واللبنانية والسورية.
وبمعزل عن الصراع الإسرائيلي-الإيراني، فإذا كان من غير المقبول على العالم أن يتغاضى عن منع إسرائيل الشعب الفلسطيني من حقه بدولة، فمن غير المسموح أيضاً ان يتغاضى هذا العالم عن دور إيراني يمنع، كما تمنع إسرائيل، الشعوب الفلسطينية واللبنانية والسورية والعراقية واليمنية من حقها في دول سيّدة على أرضها من دون دور لميليشيات تسيطر على قرارها وتُبقيها في حالة فوضى وفساد وعدم استقرار.
فالمجتمع الدولي المسؤول عن لجم المشروع الإسرائيلي الذي يمنع قيام دولة فلسطينية، هو مسؤول بالقدر نفسه عن لجم المشروع الإيراني الذي يمنع قيام دولة فلسطينية ولبنانية وسورية وعراقية ويمنية، ولم يعد التغاضي الأميركي عن الدور الإيراني مسموحاً، ولم يعد مقبولاً أساساً في هذا الزمن السكوت الأميركي والدولي عن دولة تقوم عقيدتها القتالية على نشر الفوضى في الشرق الأوسط عن طريق زَعزعة استقرار عدة دول عربية، وفي حال لم يتم وضع حدّ لمشروعها العنفي التمَدُّدي فالحبل على الجرّار…