IMLebanon

العدّ العكسي للدور الإيراني بدأ في 7 تشرين

 

لم يتوسّع الدور الإيراني في المنطقة إلا بعد أحداث 11 أيلول 2001 والتحريض الذي استتبع هذه الأحداث ضد دول الاعتدال السني، و»قبّة الباط» الأميركية لإيران، والإسقاط غير المفهوم لنظام صدام الذي أخرج المارد الإيراني من قمقمه.

أوجَدت هجمات 11 أيلول شرخاً بين الولايات المتحدة والعالم السني، وكان يفترض بأقوى دولة في العالم ان تسأل نفسها ثلاثة أسئلة قبل الردّ على هذه الهجمات: هل هناك من يريد الإيقاع بينها وبين الدول السنية؟ وهل «القاعدة» تؤيّد دول الاعتدال السني او تعارضها وتهاجمها وتعتبرها عدوة لها؟ وهل تنظيم «القاعدة» لديه القدرة الاحترافية على إعداد عملية إرهابية بهذا الحجم؟

فالمتضرِّر الأول من هجمات «القاعدة» هي المملكة العربية السعودية، والمستفيد الأول من هذه الهجمات هي الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي حقّقت لها الولايات المتحدة ما عجزت عن تحقيقه في حربها الطويلة مع عراق صدام، وفتحت لها أبواب المنطقة على مصراعيها على رغم انّ دول الاعتدال السني حليفة تاريخية لواشنطن، وطهران الثورة الدينية في عداوة مُستحكمة معها.

 

فردّ فِعل الولايات المتحدة على هجمات 11 أيلول، وحتى تبيان ما إذا كان عفوياً بهدف رد الاعتبار ام له خلفيات معينة، كان خطأ كبيراً، ولكن بمعزل عن الصواب والخطأ، فالأساس يكمن في النتيجة التي أدّت إلى تعزيز دور دولة خارجة عن الشرعية الدولية على حساب دول تنضوي تحت سقف هذه الشرعية.

 

وتدلّ الوقائع على انّ الولايات المتحدة، ومع مرور الوقت، أدخلت تعديلات، ولو بطيئة، على استراتيجيتها في الشرق الأوسط من خلال إعادة الاعتبار لتحالفها مع المملكة العربية السعودية، إلا أن هذا التحوّل لم ينضج بما فيه الكفاية من أجل وضع حدّ نهائي لدولة خارجة عن الشرعية الدولية ويشكل دورها تهديداً لاستقرار الدول المنضوية في مجلس الأمن.

وفي الوقت الذي كانت تتّجِه فيه التطورات إلى مزيد من التطبيع العربي مع إسرائيل، وفي الوقت الذي سَعت فيه طهران إلى توقيع «اتفاق بكين» مع الرياض، حصلت عملية «طوفان الأقصى» التي صُنِّفت بأهمية أحداث 11 أيلول التي كانت قد أحدثت زلزالاً في الشرق الأوسط، ومن المتوقّع ان تُحدِث أحداث 7 تشرين الأول زلزالا مماثلا بنتائجها، ولكن هذه المرة في الاتجاه المعاكس.

 

وقد دلّت مجريات الحرب التي تخوضها إسرائيل ضد «حماس» على انه رغم الخلاف الواضح بين الإدارتين الأميركية والإسرائيلية، فإن هذا الخلاف لم يتجاوز التباين التكتي والظرفي بين واشنطن التي عملت على هدنة رمضان وترفض اجتياح رفح، وبين تل أبيب التي رفضت التجاوب مع الرغبة الأميركية، إلا انّ هذا التباين لم يؤثِّر إطلاقاً على التحالف الاستراتيجي بينهما، ولا على الأولوية الأميركية في حماية إسرائيل والدفاع عنها والذي ظهر بوضوح في التصدي الأميركي للهجمة الإيرانية.

 

وما هو ثابت لغاية اليوم انّ واشنطن لا تريد ان تتوسّع الحرب وتريد حصرها في غزة، وما هو ثابت أيضا انّ طهران لا تريد الانخراط في هذه الحرب واضطرت إلى ردّ منسّق مع واشنطن بتوقيته وحجمه حفاظاً على ماء وجهها بعد استهداف قنصليتها في سوريا، وما هو ثابت أيضاً وأيضاً انّ تل أبيب لن توقِف حربها قبل إخراج «حماس» من غزة وإبعاد «حزب الله» حوالى 10 كلم عن الحدود، وما هو ثابت أخيراً ان إسرائيل باتت تعتبر الدور الإيراني، وليس فقط النووي، يشكل تهديدا لوجودها وليس أمنها فقط.

 

وما تقدّم هو وقائع سياسية وأهداف معلنة، ويفيد بأنّ انتهاء الحرب العسكرية لا يعني انتهاء المواجهة مع إيران ولا عودتها إلى ما كانت عليه قبل 7 تشرين، لأن إسرائيل التي تخوض أطول حرب في تاريخها واجهت خطرا وجوديا، وتعتبر ان هذا الخطر يمكن ان يتكرر في المستقبل، وان مواجهته لا يجب ان تقتصر على مواجهة الأذرع الإيرانية، إنما وَضع حدّ نهائي للدور الإيراني.

 

وإذا كانت تل أبيب غير قادرة على شنّ حرب ضد طهران من دون موافقة واشنطن ومؤازرتها، وإذا كان يستحيل حصول اي تحول جذري في سياسة الإدارة الأميركية قبل الانتخابات الرئاسية الأميركية، فإنّ تل أبيب ستعمل من الآن فصاعداً على خطّين: الأول رفع منسوب ضغط اللوبي الإسرائيلي على واشنطن إلى حده الأقصى من أجل تغيير نهج تعاملها مع طهران، خصوصاً انّ هذا النهج سمح لإيران بتعزيز دورها وتوسيعه، أي الانتقال من المهادنة إلى المواجهة وصولاً إلى إنهاء دورها في المنطقة في حال إصرارها على الدور التخريبي لاستقرار الدول في الإقليم، والخط الثاني اعتبار الحرب القائمة مجرّد جولة عسكرية طويلة بين جولات قادمة حتماً، وانّ آخر الحروب تكون بوضع حدّ نهائي للدور الإيراني، وقبل ذلك الخيار الوحيد يتمثّل في الجهوزية العسكرية الدائمة للتصدي للأذرع والاستعداد للحرب مع طهران.

 

وإذا كان الدور الإيراني قد وصل إلى ذروته في 7 تشرين الأول، فإن انحسار هذا الدور أصبح حتمياً بعد هذا التاريخ كَون واشنطن (التي أولويتها الدائمة والثابتة ضمان أمن إسرائيل) لن تتهاون من الآن فصاعداً مع هذا الدور الذي سيتحول إلى هدف أميركي وإسرائيلي مشترك، وهذا لا يعني ان الانحسار سيحصل في كبسة زر، إنما يتطلب مسارا طويلا، ولكن الهدف تم تحديده وهو مواجهة إيران وأذرعها حتى القضاء على دورها المزعزع للاستقرار، وتنفيذ هذه الخطة سيكون على مراحل.

 

وفي المقابل هناك من لا يزال يتعامل مع «طوفان الأقصى» وكأنه حدث عادي، وانّ انتهاء الحرب سيكون كفيلاً بإعادة الوضع إلى ما كان عليه قبل عملية 7 تشرين، ولا يأخذ في الاعتبار انّ إسرائيل التي شعرت بتهديد وجودي جدي غير مسبوق ستعمل بالتكافل والتضامن مع الولايات المتحدة على إزالة هذا الخطر وتطمين الإسرائيليين بأنه لن يتكرّر، وهذا يعني تَشدُّداً كبيراً داخل كيانها بهدف التصدي لأي جسم يشكل نسخة مكررة عن «حماس»، وتشُّدداً في مواجهة «حزب الله»، وتشدُّداً في منع تحويل سوريا إلى ممر لاستهدافها، وتشدُّداً في مواجهة إيران نفسها.

 

فلا عودة إلى ما قبل 7 تشرين، وعلى الرغم انّ التركيز هذه المرة سيكون على إيران وأذرعها على حدّ سواء، إلا ان التركيز الأكبر والأساسي سيكون على طهران التي من دونها تفقد الأذرع مبرِّر وجودها كونها مجرّد أدوات للمشروع الإيراني التوسعي، خصوصا انّ تل أبيب وصلت إلى قناعة بأنه لا يفيد بشيء التصدي للأذرع وحدها طالما ان إيران قادرة على إنشاء وتمويل وتدريب ميليشيات ومنظمات تتمدّد من خلالها وتخوض حروبها بواسطتها، فيما إضعاف الرأس او تطويقه بإحكام او القضاء عليه سيؤدي تلقائياً إلى إنهاء دور الأذرع، وخلاف ذلك مضيعة للوقت كَون القيادة الإيرانية ستجد ألف وسيلة ووسيلة لخلق «حماس» جديدة، وهكذا دواليك.

وقد تكون المرة الأولى التي تدخل فيها المنطقة بهذا التغيير الكبير، وهذا ما يجعل البعض يتريّث في التفكير والمبادرة باتجاه مشاريع تكرِّس النفوذ الإيراني من قبيل «حل الدولتين» في اليمن والعراق ولبنان من منطلق انّ ما أخذته إيران بقوة الأمر الواقع بعد أحداث 11 أيلول ستضطرّ إلى التراجع عنه تدريجاً بعد أحداث 7 تشرين، والدولة الوطنية في اليمن والعراق ولبنان ستنبعث من جديد، وجُلّ ما هو مطلوب في هذه المرحلة هو الصمود على المبادئ والمسلمات، لأن العدّ العكسي للدور الإيراني بدأ.

 

ومَن سمح للدور الإيراني بالتوسّع والتمدّد هو الولايات المتحدة التي ستضطر نتيجة الضغط الإسرائيلي الكبير إلى تغيير سياستها باتجاه إنهاء الدور الإيراني بعد ان أصبحت أمام المعادلة التالية: استمرار الدور الإيراني على ما هو عليه يعني استمرار التهديد الوجودي لأمن إسرائيل، ولا خيارات تخفيفية من قبيل ربط نزاع او غيره، فإمّا على واشنطن ان تُنهي الخطر الإيراني، وإمّا ان الوجود الإسرائيلي أصبح في خطر مستقبلي فعلي. وبالتالي، لم يعد بإمكان واشنطن الموازنة بين إسرائيل وإيران، إنما عليها ان تختار بين تل أبيب أو طهران.

 

وإذا كانت أحداث 11 أيلول قد أخرجت إيران من القمقم، فإن أحداث 7 تشرين ستُعيدها إليه عاجلا أم آجلا، فالعد العكسي للدور الإيراني التوسعي بدأ ولن يتوقّف قبل إنهاء هذا الدور، وأي استراتيجية لمستقبل المنطقة يجب ان تُبنى على هذا الأساس.