هدأت بعض الشيء عاصفة التعليقات حول المصالحة السعودية ـ الايرانية برعاية الصين، والتي شكّلت حدثاً صادماً ومن خارج السياق الكلاسيكي لمسار الاحداث في المنطقة. وسادت الساحة السياسية والاعلامية اللبنانية قراءات غلبَ عليها الانفعال والمبالغات والاعلان عن نتائج تتلاءم وتتناسب مع العواطف والتمنيات الذاتية، لا مع القراءة الموضوعية المتجردة وقد يجد البعض اسباباً تخفيفية لما حصل، تتعلق بحدة وهول الانهيارات والازمة المعيشية التي تخنق اللبنانيين وتدفع بهم الى الانتحار، كون النزاع في لبنان هو امتداد للنزاع الاقليمي الكبير، لكن اللبنانيين لم يتعلموا يوماً أنّ سلوكهم العاطفي تجاه النزاعات التي دمّرت وما تزال بلدهم، لا يؤدي سوى الى مضاعفة المآسي والى دفع فواتير باهظة الثمن وهو ما كان يحصل دوماً.
وبالعودة الى «اتفاق بكين» فإنّ المفاجأة التي قاربت الصدمة توزّعت على مستويين: الاول حول النجاح بإيقاف نزاع دامٍ ألهبَ ساحات المنطقة وعبثَ بالبيت الداخلي لكل من السعودية وايران. والثاني يتعلق بالدخول الصيني من الباب العريض الى الشرق الاوسط، كمرجعية دولية اعتادت الولايات المتحدة ان تحتكرها لعقود خَلت.
لكن هذين الحدثين الكبيرين لا بد من مقاربتهما بعقلٍ بارد وواقعية بعد ان تبدد وقع المفاجأة. فالواضح وفق بنود الاتفاق أنه طاولَ العلاقات المباشرة بين القطبين الاقليميين اكثر منه اعادة تنظيم المسرح الاقليمي المتشابك والمتشنج. الأكيد أنّ اتفاق بكين سيؤدي الى تقليص اشتعال التوترات في المنطقة، والى تبريد بعض الجبهات، لكن من المبكر جدا جدا القول انه شكّل حلولاً لهذه الازمات. هي خطوة الى الامام ولكنها خطوة اولى فقط، ذلك انّ الوقت سيكشف لاحقاً العمق الذي يمكن ان تصل اليه التفاهمات لكي يُبنى عليها مشاريع سياسية مستقبلية. فاحتواء التوترات لا يعني إزالة التناقضات ولكنها تبقى بداية جيدة في كل الحالات، وخطوة اولى واعدة. فوليّ العهد السعودي الامير محمد بن سلمان يريد هدوءاً يسمح له بإنجاز مشروعه الاقتصادي 2030، والذي يحتاج الى استثمارات ضخمة. وبالتالي فهو يريد عدم تعريض الامن الحيوي السعودي للاستهداف مجددا. ففي العام 2019 ادى الهجوم على منشآت «ارامكو» الى تراجع انتاج النفط الى نحو النصف، وهو ما يعني استتباعاً إنجاز الحلول المطلوبة في اليمن.
امّا ايران فهي تسعى للخروج من عزلتها الدولية السياسية والاقتصادية، واعادة تحصين مناعتها الداخلية بعد ما ظهر انّ الشارع قابل لإشعال احتجاجات طاوَلت نقاطاً اساسية في عقيدة النظام. وبالتالي، فإن ايران طلبت وقف التمويل السعودي لوسائل اعلامية ايرانية معارضة تعمل على تشجيع الاحتجاجات والتحركات المناهضة للسلطة.
اما الصين فهي عملت على تدشين دورها كقطب سياسي على الساحة الدولية، وهو ما يفسّر الزيارة التي سيقوم بها الرئيس الصيني الى موسكو لاستكشاف ملف الحرب الاوكرانية وامكانية القيام بدور راعي السلام، وما حكي عن التخطيط لقمة ايرانية ـ خليجية ضخمة في بكين.
وقيل انّ فرنسا كانت تطمح لأن ترعى المصالحة الايرانية ـ السعودية، لكنها لم تلمس تجاوباً معها من أي من الطرفين.
وفي حين حُكي كثيراً عن خسارة اميركية وغضب في واشنطن، جاءت تصريحات مستشار الامن القومي جيك سوليفان لتُناقِض ذلك، فهو اعتبر انّ «الاتفاق برعاية صينية لا يتعارض مع مصالحنا». واضاف: «بصراحة فهو يسير في الاتجاه نفسه».
قد يكون في كلام سوليفان بعض الحقيقة. فلا شك انّ الصين خطفت النجومية من الدور الاميركي المعهود، لكن ثمة جوانبَ اساسية تستفيد منها واشنطن خصوصاً ان الدور الصيني يرتكز على قوتها الاقتصادية، بينما النفوذ الاميركي ينطلق من السيطرة العسكرية والامنية وهو العامل الاساسي لتأمين السطوة الدولية.
وعدا عن انّ الاتفاق برعاية الصين يثبت بأنّ النزاع الدولي ليس متفلتاً، وهو مضبوط بسقف لا يسعى احد لتجاوزه، ثمة جوانب اخرى تستفيد منها واشنطن وهي:
1 – تراجع حدّة وحماوة النزاع في الخليج سينعكس تبريداً في البحر حيث ممرات النفط المائية في الخليج ومضيق هرمز، وهو ما سيطمئن الدول المصدرة والمستهلكة للنفط، بعدما أدت الاستهدافات لناقلات النفط الى ارتفاع التكلفة ما بين شركات التأمين واصحاب السفن العملاقة.
2 – تعتبر الضمانة الصينية للاتفاق قوية خصوصا بالنسبة الى الجانب الايراني، ذلك انّ الصين ستكون حريصة وحازمة في آن معاً لضمان نجاح تطبيق الاتفاق، ليشكل ذلك لاحقاً نجاحاً لدورها كوسيط دولي موثوق. وايران كما السعودية لن تعمدا الى إغضاب الجانب الصيني ولا التحايل عليه او حتى المراوغة.
3 – تراجع الحدة ما بين طهران والرياض سيفتح الباب امام واشنطن للعودة الى مفاوضات الاتفاق النووي من دون ضغوط سعودية كبيرة.
4 – تخفيف التركيز العسكري الاميركي على الخليج وهو ما سيسمح بالتفرّغ اكثر لرفع مستوى الاهتمام بالاستراتيجية الجاري تطبيقها في بحر الصين الجنوبي وعنوانها السعي لاحتواء الصين.
5 – الدفع في اتجاه دور هندي في الشرق الاوسط لمناكفة الحضور الصيني وإلهائه. فلقد نجحت شركة هندية في شراء ميناء حيفا الاسرائيلي كبديل من صفقة صينية أجهضتها واشنطن في مرحلة سابقة. والهند المجاورة للصين والتي اقترب عدد سكانها من الصين، تسعى لإثبات نفسها كقوة كبرى على الساحة الدولية من خلال مقارعة الحضور الصيني. وهنا، قد يصح القول انّ واشنطن تعمل على إيلاء الهند مهمة «مطاردة» النفوذ الصيني الناشئ من خلال اللعب على التناقضات الهندية ـ الصينية.
ولكن السؤال الأهم بالنسبة الى اللبنانيين هو طريقة انعكاس الاتفاق على المنطقة التي شهدت وما تزال نزاعاً عنيفاً وتَسابقاً على النفوذ. بالتأكيد إنّ الساحة اللبنانية ستستفيد إيجاباً كلما تقدمت العلاقة بين السعودية وايران، لكنّ السؤال هو وفق أي مدة زمنية وكلفة سياسية؟
وفي استطلاع لمؤسسة «الباروميتر العربي» والذي جرى ما بين عامي 2021 و2022 وجرى نشره الآن تظهر الارقام المدرجة إجابات لبعض التساؤلات، وتطرح في الوقت نفسه علامات استفهام يجب التمعّن بها.
فحول السؤال عن الذين يريدون علاقات اقتصادية أقوى مع ايران، جاءت النسب التالية:
العراق 31 % لبنان 29 % فلسطين 24 % والاردن 19 %
وحول الرضى حيال سياسة ايران: فلسطين 30 % لبنان 28 % العراق 24 % والاردن 21 %.
وفي الاجمال تبدو النسب ضعيفة بعض الشيء.
امّا حول اعتبار البرنامج النووي الايراني بمثابة تهديد خطير:
العراق 77 %، الاردن 64 %، لبنان 61 % وفلسطين 48 %
واستطراداً ما اذا كان النفوذ السياسي لإيران في المنطقة يعتبر تهديداً خطيراً: العراق 75% الاردن 68% لبنان 59% فلسطين 37%.
اما بالنسبة للسعودية ورداً على سؤال حول من يريد علاقات اقتصادية أقوى معها، جاءت النسب كالآتي:
الاردن 54%، العراق 44%، لبنان 35%، وفلسطين 24%.
وحول ما اذا كان النفوذ السياسي السعودي في المنطقة يعتبر خطيراً:
العراق 40% لبنان 33% فلسطين 32% والاردن 27%.
وحول نسبة الرضى عن السعودية: الاردن 62% العراق 47% لبنان 44% وفلسطين 24%.
اما عن شعبية القادة الاقليميين فجاءت النسب على الشكل الآتي:
العراق: محمد بن زايد 66%، بشار الاسد 30%، محمد بن سلمان 50%، خامنئي 28%، واردوغان 48%.
الاردن: بن زايد 34%، الاسد 8%، خامنئي 8%، واردوغان 61%.
فلسطين: بن زايد 12%، الاسد 11%، بن سلمان 13%، خامنئي 16%، واردوغان 61%.
لبنان: بن زايد 39%، الاسد 29%، بن سلمان 34%، خامنئي 24%، واردوغان 33%.
وأخيراً حول تأييد العلاقات الاقتصادية من خلال المفاضلة بين الصين والولايات المتحدة ومن يريدها أقوى:
العراق: 53% الصين، 46% الولايات المتحدة
الاردن: 50% الصين، 48% الولايات المتحدة
لبنان: 37% الصين، 39% الولايات المتحدة
فلسطين: 29% الصين، 21% الولايات المتحدة.