يصعب التكهن بما يمكن أن تسفر عنه المفاوضات المتعلقة بالملف النووي الإيراني التي استضافتها مسقط. لكنّ حضور وزير الخارجية الأميركي جون كيري ووزير الخارجية الإيراني محمّد جواد ظريف إلى سلطنة عُمان يعطي فكرة عن جدّية المفاوضات التي شارك فيها الإتحاد الأوروبي والتي تبعتها مفاوضات بين إيران ومجموعة +.
في ضوء ما رشح عن المفاوضات التي استضافتها مسقط، بات مرجّحا التوصل إلى ما يشبه الإتفاق بين الإدارة الأميركية والنظام الإيراني في شأن الملفّ النووي وذلك قبل الرابع والعشرين من تشرين الثاني الجاري.
ليس مستبعدا أن يؤدي التفاهم المتوقع بين الجانبين إلى تعليق جزء من العقوبات الدولية المفروضة على إيران، بدل رفعها نهائيا. وهذا يعني بالنسبة إلى اللبنانيين أنّ إيران ستسعى، في غياب اتفاق نهائي يرفع العقوبات، إلى التمسّك اكثر بأوراقها الإقليمية. من بين هذه الأوراق منع لبنان من انتخاب رئيس للجمهورية.
ما يفرض التوصل إلى شبه اتفاق بين الجانبين الأميركي والإيراني حاجة كلّ منهما إلى صيغة تحفظ ماء الوجه، علما أنّ إيران تسعى إلى الإستفادة، إلى ابعد حدود، من عقدة باراك اوباما الذي يضع التوصل إلى اتفاق معها في اولوية اولوياته.
كانت الرسالة التي وجّهها الرئيس الأميركي في تشرين الأوّل الماضي إلى «المرشد» علي خامنئي في غاية الأهمّية وذلك من زاويتين: الأولى اثارة اوباما لموضوع «داعش» والمصلحة المشتركة الأميركيةـ ـ الإيرانية في مواجهتها، والأخرى التطمينات غير المباشرة إلى أنّ الحرب على «داعش» لا تعني مسّ النظام السوري.
تسترضي الرسالة الرغبة الإيرانية في تجاوز المفاوضات مع الولايات المتحدة الملف النووي. تريد ايضا تفاهمات في شأن مسائل أخرى، خصوصا أنّها تعتبر نفسها منذ البداية الشريك الفعلي في الحرب الأميركية على العراق التي ادّت إلى جعل هذا البلد، او قسم منه، تحت وصايتها المباشرة.
كان على الإدارة الأميركية أن تسرّب قبل أيّام أن ثمة بداية قناعة لدى اوباما ومستشاريه بأنّ الحرب على «داعش» لا يمكن أن تنجح من دون اسقاط النظام السوري. بدت تلك التسريبات، أقرب إلى محاولة مكشوفة من أجل تصحيح خطأ الرئيس الأميركي. ما لبث اوباما أن أعلن بنفسه في قمة مجموعة العشرين في بريزبين (اوستراليا) أن لا تعاون مع نظام الأسد في مواجهة «داعش»، وكأنّه ينفي مجدّدا اعطاء تطمينات لإيران في شأن النظام السوري الذي يعني لها الكثير من زوايا مختلفة. مرّة أخرى، كشف الرئيس الأميركي، عبر كلامه المبهم، أنّه غير مستعد لأي خطوة حاسمة ذات طابع عسكري في سوريا.
في الواقع، أظهرت الرغبة الأميركية في التوصل إلى ما يشبه اتفاق مع إيران في شأن ملفّها النووي، أن ادارة اوباما ليست في وارد تعلّم شيء عن الشرق الأوسط وتعقيداته من جهة والإستفادة من التجارب التي مرّت بها من جهة أخرى.
قبل كلّ شيء، لا أهمّية للبرنامج النووي الإيراني إلّا من الزاوية الإسرائيلية، فضلا عن المخاطر البيئية التي يشكلها مفاعل بوشهر على الضفة العربية من الخليج. ما كشفته الأحداث أن هناك دوما رغبة اسرائيلية في التصعيد مع إيران، ضمن حدود معيّنة، من منطلق أنّ مثل هذا التصعيد يمكّن اسرائيل من لعب دور الضحيّة المهدّدة من نظام توعّد مرارا بإزالتها عن خريطة الشرق الأوسط.
يسمح التصعيد المتبادل مع إيران لإسرائيل بممارسة هوايتها المفضّلة. تتمثّل هذه الهواية في اللجوء إلى ارهاب الدولة من دون حسيب أو رقيب وفي تكريس الإحتلال للضفة الغربية، بما في ذلك القدس الشرقية ومنع الشعب الفلسطيني من ممارسة حقوقه المشروعة بصفة كونه شعبا من شعوب المنطقة.
ما ترفض ادارة اوباما استيعابه بأيّ شكل أن المشكلة مع إيران ليست محصورة بالملفّ النووي، وذلك على الرغم من أنّ حصولها على القنبلة النووية يوما سيدخل المنطقة في سباق تسلحّ في غاية الخطورة.
المشكلة مع إيران في مكان آخر. تكمن هذه المشكلة، بالنسبة إلى من يدّعي أنّه في صدد محاربة «داعش»، في أنّ السياسات التي تمارسها طهران تلعب الدور الأهمّ في نموّ «داعش» وما شابهه من تنظيمات ارهابية.
لم يهبط «داعش» من السماء. تمدّد التنظيم الإرهابي في العراق الذي ولد فيه اصلا قبل انتقاله إلى سوريا ومنها إلى العراق مجددا، بفضل السياسة الإيرانية القائمة على الإستثمار في الغرائز المذهبية. صحيح أنّ ما يحرّك إيران والشعب الإيراني هو الإنتماء القومي، الفارسي تحديدا، لكنّ الصحيح أيضا أن السياسة الإيرانية في المنطقة، تقوم اساسا في الإستثمار في المذهبية. هذا ما يحصل في البحرين والعراق وسوريا ولبنان واليمن على سبيل المثال وليس الحصر.
ما كان لـ«داعش» أن يجد حاضنة سنّية له في العراق لولا الممارسات الطائفية والمذهبية والعنصرية لحكومة نوري المالكي التي كانت في موقع التابع لإيران، خصوصا منذ العام . ما كان لـ«داعش» أن يتمدّد في سوريا، لولا تشجيع النظام السوري له في البداية من اجل ابتزاز الأميركيين في العراق ثم من أجل تصوير الثورة الشعبية في سوريا بأنّها ثورة تقف خلفها مجموعة من «الإرهابيين» بينهم عدد كبير من العرب وغير العرب.
هل في سوريا مقاتلون عرب واجانب، من أهل السنّة، في جانب الثوّار فقط… أم أنّ من بدأ بالإعتماد على مقاتلين شيعة مستوردين من لبنان والعراق وافغانستان هو النظام المدعوم من إيران؟.
من الواضح أن الإتفاق، أيّ اتفاق في شأن الملفّ النووي الإيراني يلبي الرغبة المشتركة لدى طهران وادارة اوباما في التوصل إلى البدء في طي صفحة الماضي القريب، الذي بدأ مع الثورة الإيرانية في العام .
إيران تبحث بكل بساطة، عن اتفاق يسمح لها بالتنفسّ اقتصاديا في وقت يشتدّ الصراع الداخلي فيها. أمّا ادارة اوباما فهي تطمح إلى تحقيق ما يعتبره الرئيس الأميركي أقرب إلى حلم له. فهو إيراني الهوى، ربّما تحت تأثير مستشارته فاليري جاريت، ولا يرى إلّا «داعش» السنّي، فيما يتجاهل «الدواعش» الشيعية كلّيا.
هل سيحلّ الإتفاق، الأقرب إلى شبه اتفاق، أيّ مشكلة في الشرق الأوسط؟ الجواب لا والف لا… في غياب التغيير الجذري في تعاطي الحكومة العراقية، التي لا تزال، على الرغم من بعض الخطوات الإيجابية المتخّذة بمبادرة من الدكتور حيدر العبادي، تعمل في ظلّ الأخ الأكبر الإيراني، مع المكونات الأخرى في البلد. والمكوّنات الأخرى هي بشكل خاص أهل السنّة والأكراد.
لن يحلّ شبه الإتفاق أي مشكلة قبل بدء واشنطن في انتهاج سياسة مختلفة في مواجهة النظام في سوريا. كلّ ما تبقى تمرير للوقت وبحث أميركي عن غطاء للسياسات التوسعية التي تنتهجها طهران في المنطقة. وهذا يحصل في وقت لا يمكن الإستخفاف بالتجاذبات الداخلية في إيران التي ستواجه من دون رفع العقوبات اوضاعا اقتصادية صعبة، خصوصا في حال استمرّ هبوط سعر النفط.