عكست الحكومة المشكّلة ميزان القوى السياسي والأمني القائم في لبنان وليس ميزان القوى السيادي الذي تعبّر عنه غالبية وطنية تتطلع لتحقيق سيادة الدولة ومكافحة الفساد من خلال حكومة مستقلة. الحكومة التي شكّلت خلال ساعات على أنقاض صيّغ رُفضت لمرات عديدة تعكس منسوب المنازلة الإقليمية والدولية على الساحة اللبنانية.
إنّ النظر بواقعية إلى ظروف التشكيل والتشكيلة يؤكّد أنّ لا دور لمعادلات الداخل بين القوى السياسية في التشكيل، وأنّ كلّ المناورات الإعلامية التي سبق واختبرت سابقاً إنما هي تكرار لملء الوقت ريثما تأتي لحظة الحسم التي لا يمكن ردها. فما قيمة الجدل حول توصيف الحكومة بحكومة حزب الله إذا كان الحزب يتحكّم بكل تفاصيل الدولة السياسية والأمنية والإقتصادية والقضائية، وهل يعقل أن تنتج هذه المنظومة حكومة لا تشبه واقعها. كذلك فإنّ معادلة الثلث التي بنيت عليها المبارزة بين الرؤساء المكّلفين لإظهار قوة الشكيمة لديهم في مواجهة رئيس الجمهورية هي معادلة ساقطة، فالثلث المعطّل محقق حكماً بل أكثر من الثلث المعطّل، عند اتّخاذ القرار بإسقاط الحكومة أو بمواجهة رئيسها وإحراجه لإخراجه، والدروس المستقاة كثيرة من تجارب ما بعد اتّفاق الدوحة أو منذ العودة إلى بدعة حكومات الوحدة الوطنية، والقفز فوق الديمقراطية القائمة على مبدأ الأكثرية في الحكم والأقلية في المعارضة. إنّ المتغيّر الأبرز الذي سبق تشكيل الحكومة أو مهّد للإنقضاض الإيراني على التشكيلة الحكومية وفرضها على الحلفاء قبل المعارضين، كان فيما حصل في العراق ولبنان على مستوى استقرار الطاقة في كليّهما.
في العراق، شكّل توقيع الإتّفاق بين الحكومة العراقية وشركة «توتال إنيرجي» إيذاناً بإنهاء التبعيّة التي تفرضها طهران على العراق في مجال الطاقة منذ عقود عديدة. فالعراق الذي يعتمد اليوم على الغاز الإيراني لتوليد الكهرباء بالإضافة إلى استجرار الكهرباء منها سيتحوّل الى سوق واعدة للغاز والنفط. هذا بالإضافة إلى إسقاط سيف الإبتزاز الإيراني المصلت على استقرار الطاقة من خلال تخفيض كمية الغاز المصدّرة للعراق في فصل الصيف وإلزام الحكومة العراقية بالسعي لدى الولايات المتّحدة لتحرير جزء من الأموال الإيرانية المحجوزة في المصارف الأميركية لرفع الصادرات من الغاز. وما يزيد في حدّة المأزق الإيراني هو عدم إدراج وزارة النفط العراقية للشركات الإيرانية على قوائم الشركات المدعوّة للمناقصة وذلك التزاماً بالعقوبات الأميركية المفروضة على طهران.
وفي لبنان، جاء الإعلان عن مشروع الربط الكهربائي بين لبنان والأردن عبر سوريا بالإضافة إلى نقل الغاز المصري الى شمال لبنان عبرها على لسان سفيرة الولايات المتّحدة الأميركية دوروثي شيا، ليشكّل عاملاً إضافياً يوحي بإسقاط الهيّمنة على قطاع الطاقة في لبنان وتقديم خيارات استراتيجية للبنان بعيداً عن القرارات الحكومية التي يسيطر عليها حزب الله، والتي أدت إلى إفراغ الأسواق بالتهريب الموسّع الى سوريا أو التخزين والبيع في السوق السوداء بأسعار خيالية تمهيداً للإعلان عن وصول البواخر الإيرانية كخيار لا يمكن رفضه لإنقاذ اللبنانيين المصطفين في طوابير الإذلال بشكل يومي.
على المستوى السياسي لمشروعي الربط الكهربائي مع الأردن ونقل الغاز المصري، كان الملفت والمقلق لطهران الموافقة السورية والتجاوب الصريح مع المشروع الأميركي، مما يؤكّد أنّ المشروع يستبطن منح النظام السوري مشروعية دولية يحتاجها وموافقة ضمنيّة على سيطرته على الجنوب السوري حيث تمرّ شبكات الكهرباء وأنابيب الغاز. هذه الإضاءة على الدور السوري المستجد تلقفها فريق حكومي لبناني ليقوم بزيارة سوريا ومقابلة الرئيس بشار الأسد، ولتتبعها زيارة النائب طلال أرسلان والوزير السابق وئام وهاب على رأس وفد من المناصرين في رمزيّة تستعيد أحياء تقليد إعتاده حلفاء سوريا في زمن الوصاية.
تنظر كلّ من دمشق وطهران إلى ترشيق مواقفهما وتخفيف حدّة المواجهة مع الولايات المتّحدة. تتقابل الليونة السورية في التعامل مع ملف الطاقة اللبناني عبر سوريا، مع ليونة إيرانية في التعامل مع الوكالة الدولية للطاقة النووية من خلال موافقة طهران لمفتشي الوكالة بمعايّنة المنشآت كافة، واستبدال ما تضرر من أجهزة المراقبة، ربما لإفساح المجال لمزيد من التنازلات وابتكار قواسم مشتركة أميركية إيرانية جديدة. وفي ضوء التنافس على أمن الطاقة تتقدّم الساحة اللبنانية كنقطة صِدام محتمل بين سوريا وإيران، بأشكال لم نعهدها سابقاً.
إطلالة الأمين العام لحزب الله بالأمس أتت لتؤكّد أهمية المبارزة المفتوحة في مجال الطاقة. هذا ما يشكّل تساؤلاً عن إمكانية التزام الحكومة الجديدة بمشروع الربط الكهربائي أو بنقل الغاز المصري الذي سيأخذ لبنان إلى خيارات استراتيجية إقليمية بعيداً عن طهران. وفيما يتقدّم ملف الطاقة ليس كملف مطروح أمام البنك الدولي بل كمادة لصراع إقليمي مفتوح يتحكّم بمستقبل لبنان يتصارع القيّمون عليه في لبنان باعتباره مالاً سياسياً مرشّحاً للإستخدام في الإنتخابات النيابية المقبلة.