كنا نقول في ضاحية بيروت الجنوبية: إيران في لبنان، فأصبح المشهد يقول: لبنان في إيران. وما عاد ينقص سوى تعليم الناس اللغة الفارسية، كلغة ثانية ليكتمل النقل بالزعرور، واستقبال الوافدين عبر مطار رفيق الحريري الدولي بصور الخميني والخامنئي والحاج قاسم وسمير القنطار وأبو مهدي المهندس وبعبارة: “صبح بخير” ونودعهم بعبارة “شب بخير” لنُبرهن للفرس أننا رهن “أصبعهم” الصغير. إنه الإستعمار الإيراني للبنان. وكلمة “استعمار” تستخدم في اللغتين: الفارسية والعربية. ومعناها واضح مثل الشمس.
نعرف أننا بتنا في القعر، في قعر جهنم الحمراء، حين يصبح الفيروس الرذيل يحصد العباد والناس مسروقين والإقتصاد في الويل والبلاد على فوهة نار وبارود وبيروت مدمرة وناسها مشردون واللبنانيون تعساء حزانى وهناك من ينهر كل الآخرين تحت إسم “المقاومة” و”الأمر لي” و”أنا وحدي من يقرر مصير لبنان” ويغمر بوابات بيروت بصور وتماثيل قتلى إيرانيين مذيلاً إياها بعبارات بطولة!
لا وجود لعلم لبناني على طول الطريق، ولا صورة، أقله صورة واحدة، لرئيس البلاد. فالبلاد محكومة من زمان بتسلطٍ غريب عجيب يأخذها “المتسلط” فيها ساعة يشاء الى حيث يشاء. نقصد مطار بيروت الدولي لنكتشف بالعين المجردة الحال والأحوال والمصير والمسار. صور قاسم سليماني ارتفعت على الأعمدة في شكل له دلالات كثيرة أقلها أن البلد في ميل ومن يظنون أنفسهم “الأقوياء” في ميل آخر مختلف تماماً حتى على أبناء وبنات الضاحية الجنوبية أنفسهم الذين يئنون، كما كل الآخرين، ويغرقون في سواد البلاد الحالك. الملايين هُدرت على صور وتماثيل ويافطات في حين أن هناك من لا يملكون ثمن رغيف الخبز. وكأن رؤية الحاج قاسم في لقطات مختلفة، ينظر الى اليمين حيناً والى اليسار حيناً آخر، ويضع يده على خده أحياناً ويُمسك ببندقية في صورة ويقف حانقاً، يتطاير الشرر من عينيه، في أخرى، يكفي في هذا الوقت الصعب، ليعيش الناس العمر عمرين. كم هي بشعة طريق المطار!
رسالة وصلت قبيل عيد الميلاد من بلدية الغبيري: تتشرف البلدية بدعوتكم لافتتاح شارع الشهيد الحاج سمير القنطار. أرسلت البلدية هذا وها هي تدشن للتوّ وضع تمثال قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني. وكأن البلاد لا ينقصها لتكون في نعيم إلا تماثيل جامدة إضافية وأسماء موتى وصور تثير الضجيج. صور كثيرة عُلقت في اليومين الماضيين لسمير القنطار مذيلة بعبارة: “وباقي المسيرة نكتبها بالدم”. فأي دماء هذه ستُكتب أكثر من روائح الدم التي تنشقها اللبنانيون، كل اللبنانيين، في الرابع من آب؟ .
“عاشوراء سرّ وجودنا والمقاومة سرّ بقائنا”. عبارة لا تواضع فيها تتردد في شعارات. ومدفع رُكّز على طريق المطار يشي بالآتي، بما ننتظره في بلد جعلوه على فوهة نار ونيران. جادة الإمام الخميني ها هنا. منذ بوابة الواصلين الى المطار حتى عمق الضاحية الجنوبية. والأنكى، أنهم يحذرون من الفيدرالية. فهم يريدون لبنان كله ضاحية جنوبية إيرانية. نتذكر هنا تلك المقولة التي انتشرت وفيها يدل لبناني لبنانياً آخر على الدرب: “وأنت قادم من مطار بيروت، تجد يافطة كبيرة تمر من تحتها جادة الإمام الخميني، تقترب قليلاً وتسلك أوتوستراد حافظ الأسد، ثم أمامك أيضاً خياران، فإما تسلك طريق اليمين، من جادة الشهيد القائد الحاج عماد مغنية، وإما تتجه نحو شارع الشهيد القائد الحاج قاسم سليماني وصولاً الى شارع القدس… أقوى من أقوى غوغل ماب… جادات إيرانية غريبة عجيبة… فكم تغيرت بيروت وما عادت نفسها!
المجسمات كثيرة. هياكل بشرية كرتونية لها أسماء ليست من طينة لبنانية. أشكالٌ تُنذرنا بأن الآتي قد يكون أعظم. وشوارع كثيرة باتت تحمل أسماء من نوع: “القائم”، “الشورى”، “سيد الشهداء”، “الكاظم”، “مصطفى بدر الدين”… أسماء وتماثيل وصور ومجسمات يراد منها القول إن “الأمر لنا”. وهذه هي إيديولوجياتنا أعجبكم ذلك أم لا. انها صور وتماثيل ومظاهر تعمل على صياغة وتشكيل هوية إجتماعية مختلفة. إنه استعراض واضح للبنان مختلف، يرتبون تفاصيله كما يريدون، في حين نعيش نحن تحت حمأة الصحة الملغومة والقطاع المصرفي المدمّر والليرة المنهارة والأمن الفارط والقهر المتمادي والجوع الذي يُنذر من يصمدون باللحم الحيّ بأنه آت آت آت.
“سنقاتلهم”. عبارة تتسلق على الشجر والأعمدة والجدران والجادات. إنهم يعيشون على الدم ونحن نعيش في دولة يُمسك بسدتها أناس “بلا دم”. هي مشهدية تتمدد من لبنان الى غزة الى العراق. مشهدية تُنذر بأيامٍ حالكة آتية. انتفض ضدها كثيرون، ما أجبر راسميها على وضع حارس تحت كل صورة ومجسم وتمثال. فمن قال إن الناس، حين تشتدّ الأزمات، سيقبلون بالهوان. فحتى في إيران انتفضوا على تماثيل حكامهم، كما انتفض السوريون على تماثيل حافظ الأسد والعراقيون على تماثيل صدام حسين.
تماثيل على طول الطريق تؤكد وقوع بوابة بيروت، لمن يهمه الأمر، تحت الوصاية الإيرانية. لكن، ألم ينتبه “حزب الله” الى ما آلت إليه تماثيل صدام والأسدين في السنوات الأخيرة؟ ألم ينتبه الى أنه، بفعلته، يثير الحساسيات مع كل الآخرين في الوطن المشلّع؟ أم أن الحزب وصل الى مفترق بات يلعب فيه لعبته “على المكشوف”؟ في نهر الكلب، تحت لوحة الجلاء، حرقوا صوراً لسليماني. وفي أجزاء من أجزاء بيروت كرروا هذا. وفي غزة صرخوا: لماذا تصرون على دس الملح في جراحات اهلنا في الشام والعراق والأحواز وعلى تحريك السكاكين في قلوبهم. وفي بيئة “حزب الله” نفسه يمرون من تحت الصور وبالقربِ من الجادات الغريبة وهم يسرعون الى تأمين اللقمة والبقاء. لكن، السؤال: لماذا كل هذا الغضب في عيني قاسم سليماني المنتصب في مجسمات وصور؟ فحتى هناك، في إيران، حملوه زهرة في إشارة الى السلام المنشود. أما هنا فلا شيء يروي سوى الدم.
إنهم يريدون “تسوية حيفا وتل أبيب بالأرض”. فليفعلوها من ايران أو من سوريا، فيكفي لبنان ما فيه. “يا قدس نحن قادمون”. نقرأ العبارة القديمة – الجديدة التي عُلقت على يافطات حديثة للتوّ. “إن شهادة الحاج ستُشكل حافزاً إضافياً قوياً ودافعاً للتقدم نحو الأهداف”. “القدس وكربلاء دربنا”… شعارات شعارات لعلّ اقواها الشعار الذي يقول: “لا تلعبوا لعبة الكبار فنحن أصحاب القرار”. شعار حمّال أوجه. ونحن ننظر يميناً ويساراً تمرّ مركبة مسرعة امامنا متشحة بصورة ضحية وعبارة: “بكير يا وجع العمر”. نعم، هذا العمر مليء بالأوجاع ويحتاج الى كثير من السلام.
تمثالان نصبا لسليماني، واحد في الجنوب وثان في الضاحية الجنوبية لبيروت. نبحث في الضاحية عن صور أو بقايا صور لضحايا 4 آب فلا نجد. نبحث عن علم لبنان أو بقايا علم لبنان فلا نجد. فالضاحية يُراد لها أن تسقط كلياً في الفلك الإيراني البحت. ولكن، كيف لـ”حزب الله” الذي طالما اعتبر التماثيل عادات وثنية أن يسلك هذا الدرب؟ لن ننتظر طبعاً جواباً لأن الحزب يأخذ في هذه الأيام، في شكل فاضح، خيارات ليس فيها “نص نص”. فهو مأزوم وحقيقة خياراته باتت واضحة مثل الشمس، اللهم ألا يتمكن من رؤيتها، من يفترض أن يراها وبسرعة، من شدة وضوحها!
نسير في شوارع لبنان. ثمة تماثيل كثيرة لشخصيات لبنانية أسهمت في تكوين عصرها. وهناك أسماء شوارع كثيرة بأسماء دول وشخصيات عبرت في التاريخ اللبناني: غورو وويغان وشارل ديغول وفوش وكليمنصو وفرنسا والسنغال وفلسطين والعراق وتركيا وأوستراليا وأرمينيا وفيينا والأرجنتين وغانا وموسكو والكويت لكن، أن تسمى شوارع، في عزّ الأزمة، بشخصياتٍ خلافية في شكل يمحو الأصل ويغلب عليه “الغريب” فهذه قصة “حزب الله” وإيران في عزّ الأزمة في الـ2021. وبالتالي لا تصحّ المقارنة بين تسميات قائمة وما يدور اليوم، خصوصاً وأن الجمهورية الفارسية تهدد بالويل والثبور وعظائم الأمور من قلب لبنان.
نعود أدراجنا الى المقلب الآخر من بيروت. ننتقل من إيران الى بيروت. وجوه الناس قلقة. كورونا يستمر بالعبث بأجساد الكبار والصغار. وصياح الحرب القادمة شديد. واللبنانيون يطالبون وبإلحاح بالدولة اللبنانية ليس إلا. شتان ما بين هنا وهناك. من يغلب؟ من يخسر؟ لغة الدم أم لغة الحياة؟ والتر ستيس الذي فلسف الأخلاقيات والمبادئ والعقل الحديث تفوه بمقولة تُجيب على كل الأسئلة: ذهب البشر الى الحروب ليقطعوا رؤوس بعضهم البعض لأنهم لم يستطيعوا أن يتفقوا ماذا سيحصل لهم بعد أن تقطع رؤوسهم.
“نه قربان” (لا يا سيدي) فلبنان لن يكون إيران وبيروت لن تكون طهران.