لم تتمكّن أجزاء السلطنة العثمانية، ومن ضمنها لبنان، من التحرّر من حكم السلاطين قبل انهيار السلطنة، ولن يتمكن لبنان ولا سوريا ولا العراق ولا اليمن ولا فلسطين من التحرّر من حكم السلطنة الإيرانية قبل انهيارها.
يستحيل الوصول إلى دولة فعلية في لبنان في ظل «حزب الله»، ويستحيل الوصول إلى دولة فعلية في العراق في ظل «الحشد الشعبي»، ويستحيل الوصول إلى دولة فعلية في اليمن في ظل «الحوثي»، ويستحيل الوصول إلى دولة فعلية في سوريا تعكس نبض الثورة في ظل نظام البعث، ويستحيل الوصول إلى حل عادل للقضية الفلسطينية في ظل تقاطع المشروعين الإيراني والإسرائيلي على رفض حلّ الدولتين.
والإشكالية المطروحة منذ العام 2005 انّ وضعية «حزب الله» تختلف عن وضعية الاحتلال السوري والدور الفلسطيني المسلّح، حيث لا يمكن إخراجه من لبنان وفي الوقت نفسه يستحيل بناء دولة فعلية معه، خصوصاً ان تجربة الـ20 سنة الماضية دلّت على استحالة ما كان يسمّيه البيك الثائر سمير حميد فرنجية بالتسوية التاريخية، فلا فرصة لتسوية تاريخية مع الحزب تقود إلى قيام دولة فعلية.
وما تقدّم يعني ان المواجهة يجب ان تتركّز على مستويين أساسيين:
المستوى الأول، السلطنة الإيرانية: يجب بداية ان يكون هناك قناعة راسخة بأنّ الأزمات التي تعانيها الشعوب الفلسطينية واللبنانية والسورية والعراقية واليمنية وغيرها لن تحلّ سوى في حالتي انهيار السلطنة الإيرانية، او اضطرارها إلى تغيير دورها، ما يعني ان حصر المواجهة مع أذرع السلطنة هو مضيعة للوقت، لأن انتفاء ذراع معينة لا يعني عدم ولادة أخرى طالما ان المُصدِّر والمولِّد للأذرع ما زال شغّالاً.
ففي الحالة الفلسطينية اليوم لن تنجح تل أبيب في وقف الاختراق الإيراني في حال اكتفت بإخراج «حماس» من غزة، لأن السلطنة ستعيد تمددها واختراقاتها بواسطة «حماس» أو غيرها، فيما إقفال الباب بشكل نهائي أمام الاختراق الإيراني يبدأ بحلّ الدولتين وينتهي بإسقاط السلطنة الإيرانية.
فالأذرع الإيرانية تستمد مالها وسلاحها وتدريبها وقوتها وعقيدتها من قيادة السلطنة، ومصيرها مرتبط بمصير السلطنة وليس العكس، بمعنى انّ نجاح تل أبيب في القضاء على «حماس» في غزة يعني خسارة السلطنة ورقة من أوراقها التي ستعمل على إعادة إنعاشها او خلق غيرها، وبالتالي الأمور تقف عند هذا الحد في ظل حرب جولات لا تزعج قيادة السلطنة كَون مشروعها قائم على الحرب والتوَسّع.
وفي الحالة اللبنانية شهدت السنوات الـ19 الأخيرة تمدداً لـ«حزب الله» حيناً وانحساراً أحياناً أخرى تِبعاً للتحالفات ونتائج الانتخابات وصلابة الموقف او ميوعته، ولكن المواجهة مع الحزب تحصل تحت سقف سلاحه ودوره، وعندما تصل معه الأمور عند حدّ التطويق لا يتردّد في استخدام سلاحه كما استخدمه في أيار 2008. ومن الصعوبة بمكان انتزاع منه ورقة الفيتو الشيعية، او تجريده من تحالفاته كلها، وكل التسويات التي أبرمت معه أسقطها بنفسه، والعبرة الأساسية والجوهرية لهذه التجربة انّ هناك استحالة لقيام دولة فعلية مع الحزب.
والهدف من إعطاء «حزب الله» كمثل هو للقول إنّ الرهان على اندماجه في مشروع الدولة وَهم، والتمَكّن من هزيمته السياسية وَهم، والرهان على هزيمته العسكرية بواسطة سيناريو إسرائيلي مثلاً وَهم بدوره، لأنّ المشكلة ليست في الحزب الذي ما هو سوى ذراع أو أداة في مشروع سلطنة إيرانية، وما لم تتصدّع السلطنة فعبثاً البحث عن حلول مع الأذرع او الرهان على هزيمتها عسكريّاً، لأن مَن أنشأها قادر على إنشاء العشرات غيرها في البيئات الحاضنة، والهزيمة العسكرية تُنهي الفصيل ولا تُنهي البيئة، ما يعني عود على بدء. ولذلك، التركيز يجب ان يتركّز حصراً على انهيار السلطنة كونه في هذه الحالة فقط تضطر الأذرع مُرغمة إلى تسويات تعيدها تحت سقف الدول الوطنية.
فكل التركيز إذاً يجب ان ينصَبّ على انهيار السلطنة، لأن من دونه يعني المزيد من تمدُّد السلطنة وتَعَزُّز أدوار أذرعها. ومن الخطأ ان تنحصر المواجهة، داخل الدول التي ضمتها السلطنة إليها، مع الأذرع، ومن الخطأ أيضا ان تتم بشكل منفصل عن المواجهة الشاملة، لأنّ مشكلة اليمني والعراقي والسوري والفلسطيني هي نفسها مشكلة اللبناني، وعلى هذه الشعوب ان تتّحِد وتضع خطة مواجهة مشتركة.
المستوى الثاني، أذرع السلطنة: بعد الاتفاق على التشخيص الذي من دونه لا علاج لأزمة أذرع السلطنة، والتشخيص يقول تكراراً ان لا حلّ مع الحوثي في اليمن ولا مع «الحشد الشعبي» في العراق ولا مع «حزب الله» في لبنان… إنما الحل الوحيد يكمن بانهيار السلطنة، وهذا التشخيص يقود تلقائياً إلى نتيجة حاسمة بأنّ الرهان على دول وطنية مع هذه الأذرع هو وَهم، وبالتالي بعد الاتفاق على هذا التشخيص يفترض الإقدام على ثلاث خطوات أساسية:
الخطوة الأولى: بالتوازي مع المواجهة الكلاسيكية المعتمدة مع أذرع السلطنة الإيرانية من الضروري البحث عن حلول ولو مؤقتة تحافظ بواسطتها الأجسام الوطنية على مساحة خارج هيمنة هذه الأذرع، وما يمكن تحقيقه اليوم سيتعذر غداً، لأن دور الأذرع بتوجيهٍ من السلطنة وضع اليد بشكل كامل على الدول التي تتحرّك ضمنها، وأي تأخير في اقتطاع هذه المساحات سيقود إلى قتال تراجعي ينتهي بسيطرة كاملة لأذرع السلطنة الإيرانية، وبكلمتين فقط لا غير يجب فِعل المستحيل لفرض حلّ الدولتين في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين، وفي حال لم يحصل ذلك فهذا يعني ان الأذرع الإيرانية ستسيطر على كامل هذه الدول.
الخطوة الثانية: أن تُبادر الشعوب الخاضعة لنير السلطة الإيرانية إلى تشكيل إطار مواجهة مشترك، خصوصاً انّ معاناة هذه الشعوب هي نفسها، وتطلّعاتها باتجاه دول مستقرة ومزدهرة هي ذاتها، وبالتالي عدم توحيد الشعوب الفلسطينية واللبنانية والسورية والعراقية واليمنية جهودها ضمن إطار تنسيقيّ واحد يؤدي أكبر خدمة للسلطنة وأذرعها، وقد حان الوقت للانتقال من المواجهة المنفصلة إلى المواجهة المتحدة.
الخطوة الثالثة: تحويل المواجهة مع السلطنة الإيرانية مباشرة، فلا يفيد بشيء تركيز اللبناني على «حزب الله»، وتركيز السوري على نظام البعث، وتركيز العراقي على «الحشد الشعبي»، وتركيز اليمني على الحوثي، وتركيز الفلسطيني على «حماس» و»الجهاد» وغيرهما، فهذا التركيز ضروري ضمن المواجهات المحلية لعدم السماح لهذه الأذرع بوضع يدها على صنعاء وبغداد ودمشق وبيروت ورام الله، ولكن حان الوقت لتدويل المواجهة، والتدويل هو المدخل الوحيد لدفع الأمور باتجاه مواجهة دولية مع السلطنة تؤدي إلى انهيارها او تغيير دورها.
فالمواجهة مع الأذرع ستبقى ضمن حدود الدول التي تعاني من هذه الأذرع، هذا فضلاً عن انّ المجتمع الدولي الذي يريد إبعاد الأزمات عن كاهله يعتبر ان هذه الأذرع تشكل جزءا لا يتجزأ من هذه الدول التي لا حل فيها سوى بتسويات محلية، وهو يجهل معنى «الاستدخال» الذي تحدّث عنه الباحث وضاح شرارة الذي قال بوضوح: «ليس صحيحاً أن هناك احتلالاً إيرانياً، لسبب أسوأ من الاحتلال. المؤرخون العرب والمسلمون يستخدمون مصطلح الاستدخال. والاستدخال يعني الأخذ من الداخل، مثل نموذج حصان طروادة. وهو أصعب وأسوأ من الاحتلال».
ومن هنا ضرورة رفع المواجهة من مواجهة مع الأذرع إلى مواجهة مع المشروع الذي يقف خلف هذه الأذرع، أي السلطنة الإيرانية، كما ضرورة الانتقال من مواجهات منفصلة في اليمن والعراق وسوريا ولبنان وفلسطين إلى مواجهة موحدة ومتحدة كمدخل أساس لتدويل قضية هذه الشعوب تمهيداً لإسقاط السلطنة الإيرانية او تغيير دورها.
وسيواصل المجتمع الدولي عدم اكتراثه لدور السلطنة الإيرانية في حال بقيت المواجهة مع أذرع هذا المشروع، لأنه يعتبرها مواجهات محلية سببها تَعَذّر شعوب العالم الثالث من الاتفاق بين بعضها البعض لقيام دول حديثة ومستقرة، وهذا ما يحتِّم أولاً ان تتوحّد الشعوب الخاضعة لنير السلطة الإيرانية، وان تركِّز مواجهتها ثانياً على السلطنة الإيرانية، وان تحمِّل ثالثاً المجتمع الدولي مسؤولية غَضّ النظر عن دور السلطنة الإيرانية بوضع اليد على دول وشعوب وإبقاء المنطقة في حالة من عدم الاستقرار الدائم، وبالتالي الحل الوحيد يكمن في الثلاثية الذهبية التالية: توحيد جهود الشعوب المتضررة من دور السلطنة الإيرانية، وتركيز المواجهة ضد السلطنة، وتدويل الأزمة.