يستمر تأرجح طهران بين تهديد الولايات المتحدة بالهزيمة على لسان قادة “الحرس الثوري”، ورفض التفاوض مع واشنطن، وبين الإعلانات المتتالية عن الاستعداد للتفاوض بشرط التزام الأخيرة الاتفاق النووي، تارة من وزارة الخارجية وأخرى من الرئيس حسن روحاني.
تستقبل القيادة الإيرانية الوسطاء العرب والأجانب، وتوفد إلى بعضهم مسؤوليها، ثم تعلن عن رفضها التفاوض، ولا تلبث أن تعتبره خيارا واردا وتعرض التباحث مع دول المنطقة على الأمن الإقليمي وإدارة الصراع على النفوذ فيها.
الواضح أن خيار حكام إيران بإجماع أجنحتهم، هو التفاوض لا الحرب، والواضح أن خيار واشنطن هو دفع حكام طهران نحو التفاوض لا المواجهة العسكرية. الأولى تنتظر الظرف المناسب وتفتح قنوات التواصل تحت مظلة من الحملات الإعلامية لإيهام حلفائها وجمهورها بصلابة موقفها، وبقدرتها على مقاومة الآثار الاقتصادية الكارثية للعقوبات، وتسعى إلى الصمود واعتماد النفس الطويل والتمسك بالأوراق وحمايتها وبتصعيد أمني ضد حلفاء أميركا العرب والخليجيين لا إزاء الوجود الأميركي نفسه. والثانية تشدد عقوباتها الاقتصادية إلى حد غير مسبوق في العلاقات بين الدول وآخرها أول من أمس. والحبل على الجرّار ليطال صادرات الدولة الفارسية من البتروكيماويات وغيرها، وتكثف من ضغوطها الديبلوماسية من أجل تقليص قدرة الحرس الثوري على الإفادة من تمدده الإقليمي في عدد من الدول.
لكن ما آلت إليه المواجهة التي تسببت بها طهران باقتحامها الساحات العربية تحت شعار “تصدير الثورة” يجعل تأرجحها في زمن الضائقة التي تمر بها، والحصار الذي تعاني منه، والذي سيزداد مع انعقاد القمم الإسلامية في مكة، أن المناورات التي تقوم بها في محاولتها الصمود بوجه الضغوط لم تعد تنفع في تحويل الأنظار عن المسألة الرئيسة التي تطرح إشكالية دورها: موقعها الإقليمي الذي خرب العلاقة مع الدول المحيطة بها. لم تعد شطارة محمد جواد ظريف في الكلام وفي التمسكن بأن برنامج بلاده الصاروخي هو لحمايتها مما سبق أن تعرضت له بلاده من صواريخ صدام حسين البالستية إبان الحرب الإيرانية العراقية، مستقبلا، في وقت يفوق عدد الصواريخ التي قصفت بها المملكة العربية السعودية من اليمن، بعشرات الأضعاف تلك التي أسقطها صدام على طهران، بينما الرياض لم تقم بأي عمل عسكري عدائي ضدها. ولم يعد تباكي الوزير الإيراني على القانون الدولي حيال اتهام بلاده بانتهاكه، بحجة أن أميركا تتغاضى عن تطبيقه حيال العدوانية الإسرائيلية… يفعل فعله، في الحرب الإعلامية والديبلوماسية مهما كانت شطارة ظريف. فعدوانية صدام ضدها في حرب الثمانية أعوام آخر القرن الماضي حجة ساقطة لا تستقيم في ظل اقتحامها الساحات العربية وتقويض أسس الدولة المركزية في عدد من دولها. وضرب إسرائيل بعرض الحائط للقانون الدولي في فلسطين وسورية ولبنان… لا يعفي الجانب الإيراني من مسؤولية اختراق حدود الدول وتحويلها إلى ميادين قتلا والتوظيف في إثارة النعرات المذهبية وويلات حروب متنقلة.
التأرجح الإيراني بين الصمود في وجه الضغوط الأميركية وبين التفاوض مع واشنطن يكشف عن جوهر المأزق الذي وقع فيه الملالي. فبموازاة اصباغهم الصفة الوطنية والسيادية على رفضهم الشروط الأميركية، يشرّعون المس بسيادة الدول الأخرى. وما الاقتراح المكرر والممجوج برغبتهم في توقيع معاهدة عدم اعتداء مع جيرانهم الخليجيين، إلا الوجه الآخر للسعي إلى انتزاع التسليم بدور طهران في التحول إلى شرطي المنطقة مجددا، مثلما كانت أيام الشاه، بموافقة الإدارة الأميركية مجددا. والتهديدات اللفظية بأن البحرية الإيرانية استطاعت تحييد الأسطول الأميركي في المياه الدولية، كما قال قائد الحرس اللواء حسين سلامي، هي الوجه الآخر لهدف السيطرة على بحر العرب وخليج عمان والخليج العربي والبحر الأحمر، والتحكم بأمنها، كما كان قبل الثورة.
التأرجح في اللغة الدعائية الإيرانية هو في الجوهر تأرجح بين السعي إلى التفاوض مع واشنطن، وبين محاولة التفاوض مع العرب على “معاهدة عدم اعتداء”. تؤجل طهران التفاوض مع ترامب، وتسعى لملء الوقت الضائع بحديث التفاوض مع الجيران لعلها تنجح في تجزئة الحلول بخطوات تهدئة موضعية هنا أو هناك، في لبنان وفي سورية ربما…أو في اليمن. ولعل هذا ما يرغبونه من الرسائل التي حمّلوها لأربع دول حاضرة في قمم مكة، أي العراق، عمان، قطر، والكويت، قبل أيام. وهو ما يطرح التحدي على الدول المجتمعة من أجل التضامن مع دول الخليج في يوجه التهديد الإيراني، أن تكون على حد أدنى من التوافق في كيفية التعامل معه.
إلا أن توسع السنوات الـ30 الماضية من قبل طهران أقحم الأميركيين أكثر فأكثر في المنطقة، وهو الذي برر عودتهم بقوة إلى العراق، وعزز وجودهم أكثر في مياه الخليج، وهو الذي سوغ إعلان الإمارات وأميركا بدء سريان اتفاق التعاون الدفاعي بينهما… وهو الذي جلب إسرائيل إلى حلبة الحروب والتناقضات الإقليمية، لاسيما في سورية، بحيث بات أي تفاوض لضبط إيران إقليميا صعبا من دون اشتراك واشنطن فيه. وللتذكير، فإن الدور السابق لإيران في الإقليم كان برضى إسرائيل.