Site icon IMLebanon

سياسة العبث الإيرانية في المنطقة العربية لن تتغيّر!

 

عندما كانت المفاوضات الإيرانية الغربية تسير قدماً لكن بسرعة السلحفاة، كان الاهتمام الإقليمي والدولي منصباً على محاولة معرفة واستطلاع مسبق لردود الفعل العربية من جهة، والإسرائيلية من جهة أخرى في حال وصول الاتفاق إلى خواتيمه. فالدول العربية المهمة وعلى رأسها المملكة العربية السعودية لم يكن يزداد قلقها ويتفاقم من مضمون الشروط الرئيسية والبنود المحورية للاتفاق بقدر ما كانت تراقب عن كثب النشاط العسكري والسياسي لطهران في العديد من البلدان العربية في منطقتنا. وفي المقابل فإن إسرائيل عبر استخباراتها ومراكزها العلمية كانت تتوجس ريبة من المستوى المتقدم لتخصيب اليورانيوم في المفاعلات الإيرانية المزروعة على طول امتداد البطاح الإيرانية وكانت تدق ناقوس الخطر محذرة من أن إيران قد اقتربت كثيراً من نقطة صناعة القنبلة.

بدت الدول العربية، وهذا ما يعنينا، أكثر قلقاً ومعنية بصورة أكثر مباشرة بالنشاط العسكري والسياسي الإيراني أكثر من إسرائيل نفسها لأن مرحلة ما بعد محمود أحمدي نجاد، لمن يراقب بدقة ويتابع بحرص، تتميز بتراجع ملحوظ في نبرة الخطب النارية الإيرانية خلافاً لتلك التي كان نجاد تستهويه بقوة العودة إليها باستمرار. فأمن إسرائيل والبترول في المنطقة هما الهم الأول لأميركا في المنطقة. ولم تحد السياسة الأميركية واستراتيجيتها في منطقتنا يوماً عن هاتين الأولويتين.

وليس من حاجة بالنسبة إلينا نحن العرب، في المنعطف التاريخي الراهن الشديد التعقيد لإعادة التذكير بكل ما نواجه من مخاطر ما زالت مستمرة بل تزداد عنفاً وضراوة بسبب «إثارة الصخب» من قبل طهران على حد تعبير وزير الخارجية السعودي عادل الجبير، وزعزعة الاستقرار وزعزعة الأنظمة في العديد من البلدان العربية في منطقتنا. فقد كانت هواجسنا تصيب كبد الحقيقة عندما رحنا ندرك وبالملموس أن الدول الخمس الكبرى زائد ألمانيا قد عمدت عملياً في سبيل تقديم الدفع المناسب لملف إيران النووي إلى القيام بفصل مثير للشبهات بين المحادثات مع طهران من جهة وكل الشغب والمتاعب والحروب التي تثيرها طهران نفسها في المنطقة من جهة أخرى. أي بكل بساطة بوسع طهران المضي قدماً بإرسال التعزيزات العسكرية من الميليشيات المذهبية الشيعية إلى سوريا، بل من الحرس الثوري الإيراني نفسه، حيث تجري مكاسرة دموية مفجعة بين هؤلاء ومن يتصدى لهم من فصائل إرهابية ظلامية مقابلة كداعش والنصرة والعديد من الزمر المذهبية السنية. بل منذ أيام بالذات عمد رأس الدولة الإيراني إلى توجيه تهديدات صارخة تتناول وضع البحرين. ولم يتوان أحد نواب البرلمان الكويتي المعروف بولائه لإيران عن القدوم إلى بيروت والقيام بزيارات ذات طابع انقسامي مذهبي من شأنها نكأ جروح كويتية، تتطلب وحدة الكويت الكف عنها وتجاوزها. وترخي بظلالها المغمسة بالدماء الارتكابات الدموية التي يتورط فيها الحشد الشعبي في الأنبار في محاولته استخلاص الرمادي ومنطقتها من قبضة تنظيم داعش الإرهابي.

وفي صباح الاثنين في 27 تموز، استأنف الحوثيون صالح قصف تعز ولحج خارقين علناً الهدنة الإنسانية القصيرة (5 أيام فحسب) والضرورية لإيصال المساعدات الإنسانية إلى الشعب اليمني المنكوب ما عدا الاستيلاء على عشرات الشاحنات السعودية المحملة بالمواد الغذائية والمساعدات العاجلة.

وفي المقلب الآخر، ما زال الوضع اللبناني رغماً عن إبرام الاتفاق النووي الإيراني مع الدول الست، رهينة لحزب الله والأجندة الإيرانية، حيث تتلقى الحكومة السلامية ضغوطاً هائلة لإكراهها على الاستقالة. وهذه المرة بدعم المحاولة المكشوفة من قبل العونيين. ويجري استخدام أزمة النفايات والتقنين القاسي في الكهرباء والشحّ المتواصل في مياه الشفة على العاصمة لتحويل حياة اللبنانيين في ذروة موسم السياحة والاصطياف وهو مورد رزق عشرات الألوف من العائلات، إلى جحيم لا يطاق. ويقوم لوران فابيوس وزير خارجية فرنسا بزيارة طهران محاولاً إقناع الإيرانيين بالإفراج عن ملف انتخابات الرئاسة الأولى، وليس بوسع أحد التكهن بشأن الأثمان التي تطلبها طهران كمقابل لموقف متفهم حيال الأزمة اللبنانية.

الأهم من كل ذلك والذي بات واضحاً جلياً في منطقتنا، هو ما يدور على أرض إيران من صراع محتدم بين اتجاهين: المتشددون من جهة يقابلهم الفريق الإيراني الذي تابع ورعى وأنجز الاتفاق العتيد. فقاسم سليماني وعلي ولايتي وكل الفريق المتشدد أي الصقور يرفضون بحدة البند الخاص بإخضاع المنشآت العسكرية الإيرانية للتفتيش الدولي، فقد جاء تصريح علي ولايتي المتزمت بهذا الصدد ليحرج كثيراً جون كيري وزير خارجية أميركا الذي يخوض معركة إقناع عسيرة داخل الكونغرس الأميركي بجدوى الاتفاق، لدرجة أنه يعتبر إخفاق الاتفاق نكسة خطيرة ستضرب المنطقة العربية وتهدد العالم. هذا مما دفع كيري لاتهام القادة الإيرانيين باعتماد أسلوب مزدوج في التعاطي مع مضمون الاتفاق. ولو راجعنا المعلومات التي لطالما رشحت إلى خارج إيران والتي رافقت المفاوضات الطويلة والتي خلالها اشتعلت في المنطقة باستمرار الحروب التي تدأب طهران على المضي فيها أو افتعالها، من معلومات عن حقيقة مراكز القرار في إيران لملنا عندها للاعتقاد بأن المتشددين الإيرانيين هم الذين تعود إليهم خلاصة القرارات الكبرى. وبالطبع لا بد للفريق الآخر دفاعاً عن مشروعه الذي أسبغ عليه صفة النجاح بل الانتصار، من أن يكلف محمد جواد ظريف وزير الخارجية بالقيام بجولة سريعة لطمأنة دول الخليج. كما راحت وكالة «فارس» الصحيفة الرسمية تنشر أخباراً مفادها البدء بتحول مفاعلات اساسية كـ»فوردو» و»آراك» إلى الصناعة السلمية.

كيف السبيل على ضوء هذه المعطيات لحل النزاع المستحكم في إيران؟ إن علي خامنئي المرشد الاعلى للنظام لا يجد نفسه في مأزق حتى ولو كان هناك الرئيس روحاني ووزير خارجيته ظريف وكل الفريق الذي أنجز الاتفاق والذين يعكسون عملياً تطلعات الطبقات الشعبية والوسطى في تحسين أوضاعهم المعيشية الصعبة والاستفادة من المبالغ المفرج عنها بعد البدء بتخفيف العقوبات الاقتصادية والمالية، ومن جهة أخرى هناك الفريق المتشدد الماضي قدماً في سياسة إشعال الحروب والتدخل السافر في شؤون بلدان المنطقة، لا بل راجت في الآونة الاخيرة معلومات مؤكدة تشي بنمو متزايد لطبقة اجتماعية ايرانية مما يسميه الرئيس روحاني «تجار العقوبات» اي تلك الفئة من اركان الحرس الثوري الايراني وسواهم من المتشددين النيو-الامبراطوريين التي اقامت طيلة فترة العقوبات ولمصلحتها مؤسسات رديفة خاصة على هامش وحساب مؤسسات الدولة والقطاع الخاص نفسه وذلك من اجل استمرار تمويل قوة «الحرس» في الداخل ومشاريعه التوسعية في الخارج. هذا مما ارخى بظلال الفساد على هذه الفئة وانعكس نقمة شعبية وازنة. انه في هذا المجال علينا ان نتذكر تلك الشعارات التي اطلقت في السنوات الماضية في التظاهرات الشعبية التي كان بعضها من قبيل «ايران لبنان!» في اشارة واضحة للمكالبة بوقف المال الايراني (عائدات النفط) المتدفق على حزب الله.

آثر المرشد الاعلى الامساك بالعصا في وسطها وايجاد حل متوازن بين فريقي النزاع، فهو يعتقد انه مع بدء تدفق المال الايراني المتوقع توفره مع الخطوات الاولى لتنفيذ الاتفاق بصورة تزامنية فانه «بالامكان استثمار جزء من هذه الاموال في مشاريع التنمية الداخلية» وفي آن معاً «يؤكد ان بلاده لن تتوقف عن دعم شعوب العراق وسوريا (وحكومتيهما) واليمن والبحرين والمجاهدين في لبنان وفلسطين». معنى ذلك ان الوظيفة السياسية «لتجار العقوبات» لن تتغير، اي استمرار نفوذهم الداخلي بالقوة التي يتمتعون بها الآن كي يتسنى لهم المضي قدماً في تنفيذ هذه المهمات الخارجية. اي بكل بساطة ان الشريحة الكبرى من الاموال ستبقى في ايدي هؤلاء المتشددين، بينما قد يجري استثمار قسم طفيف من مشاريع التنمية الداخلية. والحق ان الفريق المتمثل بروحاني وحكومته بالرغم من ميله لايلاء المستوى المعيشي الداخلي بعض الاهتمام فان القيادة الايرانية ما زالت موحدة حول الوظيفة الخارجية للاموال قبل رفع العقوبات وبعدها. بل في صفوف روحاني وفريقه من يعتقد انه لولا السياسة التوسعية الايرانية وتدخلها العسكري والسياسي في شؤون المنطقة، لما استطاعت طهران الاضطلاع بهذا النفوذ الكبير الذي جعلها في موقف قوي اثناء المفاوضات.

على ضوء هذه المعطيات فان التوقعات تشير الى اشتداد الصراع الميداني في كل الساحات التي اشار اليها المرشد الاعلى خامنئي لا بل، بسبب التنازلات التي اضطرت طهران لتقديمها من اجل ابرام اتفاقها النووي، فان تسعير نيران الحروب المتفرقة هو متوقع بمكان، وذلك من اجل تلميع صورة النظام الايراني في اوساط حلفائه ومؤيديه وتماسك الوضع الداخلي الايراني.

ووصولاً حتى نهاية السنة الحالية، موعد الابرام النهائي للاتفاق، فمن المتوقع ان تشهد المنطقة تصعيداً كبيراً في المواجهة بين المشروعين الايراني من جهة والعربي المتصدي له من جهة أخرى.