هل يمكن فهم التوتر السائد في لبنان والتأزم على كل الأصعدة من دون ربطهما بما يسود المنطقة برمتها، وبحسابات فرقاء محليين ربطوا مصيرهم ودورهم في البلد الصغير بما يجري في الإقليم؟
يصعب الفصل بين قضايا هي بالفعل محلية جدا، وقد تبدو بلدية وقروية أحيانا، وبين مقتضيات حسابات هؤلاء الفرقاء، الخارجية. وهذا ما ينطبق على “حزب الله” تحديدا (ومعه حلفاؤه في السلطة) ومواقفه من المشاحنات السياسية المحلية الدائرة، والأحداث الأمنية التي تحكمت تفاعلاتها بالمعادلة السياسية المختلة التي تتحكم بالمأزق اللبناني. حتى مناقشات شأن مثل الموازنة تخضع في جانب منها لاعتبارات وحسابات تموضع القوى السياسية استباقا لما هو آت على صعيد الإقليم. والدليل أن لا أحد مستعد لإعطاء تفسير واضح عن سبب عدم لجوء التركيبة اللبنانية التي أنتجت الموازنة والتي هدفها خفض العجز بتقليص الإنفاق وزيادة الواردات، إلى زيادة هذه الواردات من الجمارك التي يكفي حسن إدارتها لتصحيح الأداء المالي للدولة اللبنانية. ولا أحد على استعداد لحمل المجموعات المنتمية إلى معظم الفرقاء والتي تشارك الموالين ل”حزب الله” في التهريب والتهرب الجمركي والتلاعب بالبضائع التي تدخل لبنان بصورة شرعية من دون أن تنال الخزينة العامة حصتها منها.
أبواب الهدر تعود لأسباب سياسية. وأضيف إلى منطق المحاصصة بين الطبقة السياسية في نهش أموال الدولة كثيرة، عامل العقوبات الأميركية على النظام السوري وإيران و”حزب الله” ليزيد سببا سياسيا جوهريا: لبنان أحد ميادين الالتفاف على العقوبات، مثله مثل العراق وتركيا وغيرها. ولبنان أحد ميادين استعراض القوة والاحتياط لتحصين مواقع حلفاء إيران سواء كان ذلك تمهيدا للمواجهة المحتملة، أو كان في سياق تحسين المواقع من أجل التفاوض. في بلاد الرافدين يجري بيع النفط الإيراني بعد إعفاء العراق من العقوبات 3 أشهر إضافية، حيث يجري تكديس النفط الإيراني وبيعه من طريق تركيا بأسعار مخفضة، وتخزينه ليباع من قبل بغداد بعد انتهاء مهلة ال3 أشهر لتعزيز قدرة طهران على الصمود … وهذا يحتاج لحماية وصيانة الموالين في بغداد. وفي لبنان يحتاج الحليف الإيراني إلى تمتين دور من التحقوا به، وإلى إبقاء خصومه في حال دفاع عن النفس وفي حال تأزم أيضا.
تحتاج إيران إلى الإبقاء على التوتر أينما كان، فتزداد هي توترا على رغم الاعتداد بالنفس وبالقوة الذي تحرص على الظهور بها.
تتصرف على أنها قادرة على لي ذراع الأميركيين أمام المجتمع الدولي في المياه الدولية في الخليج. وتبعث برسالة إلى الشعوب التي تمكنت من تحقيق نفوذ واسع في شرائح مهمة منها. لكنها تستند في ذلك إلى إدراكها المسبق بأن واشنطن ليست في وارد خيار المواجهة العسكرية مع طهران، التي تحارب دولة لا تريد الحرب.
فمراهنة دونالد ترامب هي على نجاح حربه الاقتصادية ضد حكام طهران، بالعقوبات لأنها اقل كلفة من المواجهة العسكرية. وبخلاف الانطباع الذي يوحي به قادة الحرس الثوري بأنهم يخوضون هذه المواجهة بأعصاب باردة، فإن تهديدهم بتدمير حاملات الطائرات الأميركية في الخليج وبتعميم الحرب على كافة الإقليم، ينم عن توتر وتأزم شديدين.
أسباب التوتر الإيراني لا تقتصر على ما يشهده المسرح الخليجي، وما يحيط بحرب ناقلات النفط وإجراءات منع تصدير النفط الإيراني، بل وجب النظر إلى الضغوط على طهران في ميادين أخرى من الإقليم حيث يتعرض الحرس الثوري لمحاولات الحد من تأثيره، في إطار المنافسات على النفوذ والأدوار في المنطقة.
في شرق البحر الأبيض المتوسط، فإن أكثر ما يقلق العقل الإيراني هو التوافق الأميركي الروسي على إخراج إيران من سورية بالتدريج. فالتقارير تتحدث عن أن فشل الاجتماع الثلاثي الأميركي الروسي الإسرائيلي في الاتفاق على هذا الهدف، لم يكن سوى تمهيد لاتفاق ترامب مع فلاديمير بوتين في اليابان أثناء قمة العشرين. وهو اتفاق إن صحت وقائعه يقود إلى توزيع المساحة السورية بين مناطق نفوذ روسية وأميركية وتركية وإسرائيلية على شكل دويلات ولو موقتة، من دون نفوذ إيراني. ومن الطبيعي أن يطلق ذلك صراعا مريرا يشكل “حزب الله” الذراع الرئيسة فيه.
هذا كاف لفهم توتر إيران و”حزب الله” في لبنان، ولإدراك أسباب الإلحاح على أن تكون له اليد الطولى في قرار السلطة السياسية. وهذا ما قصده أمينه العام السيد حسن نصرالله من إملائه للموقف من معالجات حادثة قبرشمون في الجبل، طالما أن وليد جنبلاط يخالفه توجهاته في إلحاق لبنان بخطة المواجهة الإيرانية، وما دام سعد الحريري يتضامن معه.
هناك من يشبّه ما يجري في لبنان هذه الأيام بتلك التي سادت عام 2000 ، حين تنامى الاعتراض اللبناني على وضع اليد السورية على لبنان بفعل التهيؤ الأميركي لاجتياح العراق، لأن الضغط على المعادلة اللبنانية كان يفوق قدرة اللبنانيين على الاحتمال. وهناك من يشبه ما يجري بمرحلة عام 2004، يوم سعى بشار الأسد لأن يفرض على اللبنانيين، بمن فيهم جنبلاط معادلة “إما معنا أو ضدنا”، بسبب ضغوط واشنطن على دمشق في مرحلة ما بعد احتلال العراق، فحصل ما حصل من بعدها. وفي الحالتين يصعب توقع غير الشرور.