بعض السياسات التي تأتي من دول مهمّة لا تُفاجِئْ فقط بل، تربك احياناً منظومة المعلومات والتحليل لدى المراقب. نموذجان على هذا النوع من السياسات شهدتهما منطقتنا والعالم في الفترة الماضية. أحدهما لا زال يتفاعل فضائحيّاً في الأشهر الأخيرة والثاني لا زلنا في بداية صدمته المعلنة.
الأول المتعلّق بدعم السلطة التركية لمنظّمة “داعش” الأصولية.
والثاني هو دعوات رئيس وزراء إسرائيل بنيامين نتنياهو ومسؤولين إسرائيليّن آخرين يهود فرنسا للهجرة إلى إسرائيل تحت شعار أنها، أي إسرائيل، المكان الآمن الوحيد لليهود.
رغم كل ما كُتب عن علاقة الرئيس رجب طيّب أردوغان وحزبه، حزب العدالة والتنمية، بـ”داعش”، وكاتب هذه السطور كان، بتواضع، أحد أوائل الذين تناولوا هذا الموضوع عندما كان لا يزال موضوعاً مبهَماً إعلاميا، فإن الأسئلة الأولية حوله متواصلة وكأن الصدمة تحصل الآن لأن المقصود هو السؤال عن “غرابة” فضلاً عن خطورة حصوله نفسه، غرابة لم تخف ولم نتعوّد عليها بعد رغم كل هولها الواقعي الصارخ.
كذلك على مستوى آخر دعوة مسؤولين إسرائيليين، أي في مواقع تمثيل الدولة الإسرائيليّة، إلى هجرة اليهود الفرنسيّين دون أي حساب للإهانة التي تتضمّنها هذه الدعوة لفرنسا دولةً ومجتمعاً؟
هل هذان “النموذجان” إحدى نتائج صعود اليمين الديني في العالم وما يحمله معه من حسابات ومشاعر انفصال وصدام؟ لأن الذي يجمع بين نتنياهو ورجب طيّب أردوغان، وهما في حالة صدام سياسي، هو أن كليهما زعيم تيار ديني أو ما سمّي في العلوم السياسيّة “القوميّة الدينيّة”. أردوغان هو النسخة الأخيرة لمد ديني يشمل المدرسة الإيرانية واليمين المحافظ الجمهوري الأميركي كما ظهر في عهد الرئيس جورج دبليو بوش مثلما نتنياهو هو امتداد لتيار سياسي قاده في الوصول إلى السلطة رئيس الوزراء السابق مناحيم بيغن.
الملاحظ أن النسخ الثلاث التركية والإسرائيلية والإيرانيّة لا تعبّر فقط عن نزوع أيديولوجي ديني بل تدمج في تجربتها العملية بين هذا النزوع وتمثيله للمصلحة القومية في كل بلد من بلدانها الثلاثة. لهذا ينطبق عليها وصف “القوميّة الدينيّة”.
لكن هذه المدارس الحاكمة الثلاث تستمر في تغيير “البيئة” السياسيّة في المنطقة بعد أربعة عقود على بدء صعودها وهي تصل اليوم، عبر اليمين الإسرائيلي الليكودي، لتمس البيئة الأوروبيّة في لحظة حرجة وقلقة يسبّبها الإرهاب الأصولي الإسلامي في فرنسا. من هنا خطورة دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي ليهود فرنسا إلى الهجرة من حيث هي منعطف خطير في المناخ الفرنسي والأوروبي. لا شك أن الاتحاد الأوروبي وفي المقدمة دولة كبيرة مثل فرنسا لن يقفا متفرّجَيْن عليه وسيعالجانه على أعلى مستوى من الاستنفار الثقافي والسياسي والأمني. هذا لعب بأساس “منطق الدولة” الأوروبيّة الحديثة وبمحصلة تراكم اجتماعي وثقافي أوروبي على مدى أكثر من مئتي عام. بالمناسبة يذكر المحرر السياسي لمجلة “ذي جويش جورنال” شموويل روزنر في مقالٍ له بعد مجزرة باريس أن “عدد اليهود الفرنسيّين الذين غادروا إلى إسرائيل العام الماضي تجاوز الستة آلاف شخص”.
بالنسبة لنا في المنطقة، والعالم العربي تحديداً، ربما يكون هذا الاستفزاز اليميني الديني الإسرائيلي لنمط نظام العيش الأوروبي مفيدا من حيث إدراك أوروبا والغرب أنه آن الأوان للانتهاء من اللعبة الخبيثة الغربية التي اعتمدت دعم التيارات الدينية الإسلاميّة لتحقيق مصالحها الاقتصادية والجيواستراتيجية. وقد فاجأني (وآلمني) كمراقب أن يكون أول خطاب للرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند في السياسة الخارجيّة بعد مجزرتي “شارلي إيبدو” والمطعم اليهودي هو التمسك بآرائه نفسها في الأزمة السورية دون أن تظهر منه أية مراجعة نقدية ذاتية للسياسة الفرنسية ما بعد الثورة السورية بعكس ما فعله الرئيس باراك أوباما بعد خروج “داعش” عن السيطرة في العراق وأوروبا عبر اعترافه بأخطاء السياسة الأميركية حيال التنظيمات الأصوليّة المتطرّفة.
لكن بعض التشقّقات الاستراتيجية في الصورة العامة لسيطرة اليمين الديني على المنطقة تظهر وربما تتطوّر:
– اليمين الديني الإيراني دخل مرحلة البحث عن تسوية استراتيجية مع الغرب مقابل العرض الغربي الأميركي العام بتثبيت بعض مكتسباته الإقليميّة الأساسية؟
– اليمين الديني الإسرائيلي يواجه ضغطاً حقيقيّا ومتفاوتاً من الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة لكسر سياسته التي تغلق كلَّ فرصةٍ لقيام دولة فلسطينية حتى ليبدو اليوم المشروع الفلسطيني للاستقلال وإنهاء الاحتلال مشروعا دوليّاً فقط في ظل هزال عربي استراتيجي يتحمّل أيضا الفكر اليميني الديني العربي التابع والحائر وبأشكاله المختلفة مسؤوليّة كبيرة عنه.
– اليمين الديني التركي ولو كان في ذروة صعوده الآن في السلطة فقد بدأ يواجه من الداخل العلماني السنّي والعلوي التركي والكردي كما من الخارج الغربي ضغوطا أساسية للحد من مبالغاته في سوء استخدام السلطة وفي الدخول في مغامرات خطرة في المحيط الإقليمي تهدّد المصالح التركية كما الأمن التركي.
سبق لمناحيم بيغن أن تبنّى علناً نظرية بناء اليهود للأهرامات المصريّة. ومؤخّرا “أكّد” رجب طيّب أردوغان أن المسلمين، ويقصد ضمنا الأتراك في العصور الوسطى، هم الذين اكتشفوا القارة الأميركيّة. (سبقه إلى ذلك ذات يوم العقيد معمّر القذافي).
هذه ادعاءات لا يجب حملها على محمل الجد إلا من زاوية واحدة: مظاهر “طريفة” وبارانويّة من استفحال خطير لصعود اليمين الديني في المنطقة، مثل مفاجأة أردوغان الأخيرة باستحداث فرقة استقبال في الحرس الجمهوري في القصر الجمهوري الجديد يرتدي عناصرها ثياب مقاتلين لإمارات تركية وسلجوقية وعثمانية قديمة.
هل سيبدأ التغيير في الانتخابات الإسرائيليّة القريبة أم سيتكرّس اليمين الإسرائيلي حتى لو اعتبر نفسه علمانيّاً بمصطلحات السياسة الداخليّة الإسرائيليّة؟ أم سيكون التغيير (البادئ) الاستراتيجي فعلاً في تقدّم المفاوضات الأميركيّة الإيرانيّة؟ أما الزعيم رجب طيِّب أردوغان فلن يفعل أخصامُه الكثير: لقد أصبح عدوَّ نفسه.