للمرّة الأولى منذ انتهاء الحرب الباردة والطموح السوفياتي إلى بلوغ المياه الدافئة، ترتفع حرارة الصراع على الشاطئ الشرقي للمتوسط. لكن المواجهة الحاصلة اليوم ليست محصورة بجبّارين دوليين، ومعهما الحلفاء الأوروبيون، بل تضمّ لاعبين يطمحون إلى أن يصبحوا جبابرة إقليميين: تركيا، إيران، وطبعاً إسرائيل. وعلى الأرجح، هذا الصراع سيخلِّف تداعيات على لبنان.
هدف واشنطن، في لبنان، خلال هذه المرحلة، هو منع إيران من وضع يدها على القرار، ومنعها من أن تكون على تماس مع إسرائيل وشاطئ المتوسط، بحيث يمكن أن تهدِّد أساطيلها والمصالح الاقتصادية والأمنية أو تستهدف بصواريخها الاستراتيجية دولاً أوروبية.
يعمل الأميركيون لمحاصرة إيران بدءاً من العراق. وفي الأيام الأخيرة أظهروا اهتماماً استثنائياً بتدعيم قواهم هناك، وتقوية السلطة المركزية بقيادة مصطفى الكاظمي. ومن الواضح أنّ واشنطن ليست إطلاقاً في وارد تقليص حضورها في العراق.
أمّا في سوريا، فيتولى الإسرائيليون ضبط التمدّد الإيراني ويعوقون وصول المؤن إلى «حزب الله» في لبنان، حيث يتشدّد الأميركيون في الحصار المالي والاقتصادي والسياسي.
وفي اعتقاد خبراء أنّ واشنطن ستدعم مواقعها في لبنان، على اختلافها. ففي موازاة حضورها العسكري، بالتنسيق مع الجيش اللبناني، هي تبني سفارة وصفت بأنها أقرب إلى القاعدة العسكرية المصغّرة. وأمّا قواتها البحرية فمنتشرة دائماً مقابل الشاطئ اللبناني.
في الموازاة، هي تمتلك أوراقاً قوية في ملف استخراج الغاز اللبناني. فعلى رغم «نكسة» لبنان بعدم وجود كميات تجارية في البلوك الرقم 4، فإنّ لبنان لم يخرج «بالضربة القاضية» من النادي. والموعد المقبل سيكون في البلوك الجنوبي، الرقم 9.
سيُبادر الإسرائيليون إلى «التحرُّش» بلبنان قريباً، ما يطرح عليه تحديات لا تقتصر على كميات الغاز المهدَّدة، في الـ860 كيلومتراً مربعاً التي سيضع الإسرائيليون يدهم عليها، بل تذهب إلى حدّ التساؤل عن مصير جزء كبير من المخزون: هل هو معرَّض للسرقة؟
فمن الناحية الجيولوجية، البقعة المختلف عليها فوق الماء متداخلة في باطن الأرض. فإذا بدأ الإسرائيليون سحب كميات من الغاز، في الخزّانات المحاذية للبنان، فإنهم على الأرجح سيسحبون من المخزون اللبناني أيضاً. وهذا ما سيفرض على لبنان الاستعانة جدياً بالوسيط الأميركي لضمان ذلك.
وثمّة مَن يتوقع أن تكون هذه إحدى المهامّ الأساسية التي سيعمل عليها مساعد وزير الخارجية الأميركية لشؤون الشرق الأوسط ديفيد شينكر في المرحلة الآتية، وسيكون لبنان أمام استحقاق التفاوض مع إسرائيل، عبر واشنطن والأمم المتحدة، لترسيم حدوده جنوباً.
وهناك مَن يعتقد أنّ واشنطن هي الشريك الوحيد الذي يستطيع أن يسهِّل تسوية الخلاف اللبناني – الإسرائيلي، بدخول شركاتها على طرفي الحدود وتوزيع استثماراتها على الجانبين بنسَبٍ يتمّ الاتفاق عليها.
في هذه المسائل كلها، لبنان عاجز عن تجاوز واشنطن، خصوصاً أنه مقيَّد بالانهيار المالي والنقدي والاقتصادي. فالمؤسسات الدولية والجهات المانحة وحلفاء الولايات المتحدة هم الذين يمسكون بمصير لبنان، في النهاية. والمعبر الإجباري هو صندوق النقد الدولي.
في المقابل، ماذا يفعل الآخرون: الفرنسيون والروس والأتراك والإيرانيون؟
يؤكد المطلعون أنّ فرنسا لن تُشاغب على الدور الأميركي في لبنان. فهي تريد الحفاظ على موطئ قدم تاريخي لها في الشاطئ الشرقي للمتوسط، لكنها تتصرّف بـ»تواضع» وواقعية. فهي تعرف أنّ واشنطن هي اللاعب الأقوى. ولذلك، تقوم بإشراكها في أي دور، حتى لو وقع الخلاف بين الجانبين حول مسائل معينة، كما جرى خلال عمل اللجنة الثلاثية الأميركية – الفرنسية – البريطانية، بعد انتفاضة 17 تشرين الأول 2019.
ويحرص الفرنسيون على هذا التنسيق، على رغم التوتر الناتج عن دور واشنطن «المتردّد» إزاء تمدُّد تركيا في المتوسط وليبيا وتهديدها مصالح الأوروبيين. فالأميركيون أوحوا بأنهم أعطوا أنقرة ضوءاً أخضر. وقد ردّ عليهم الأوروبيون برفض مشروع قرارهم في مجلس الأمن، القاضي بتمديد حظر التسلح على إيران.
إذاً، ليس سهلاً التمييز بين الحلفاء والخصوم الإقليميين والدوليين، ولا اكتشاف المصالح المتناغمة والمتعارضة. فالأميركيون والفرنسيون يلتقون على مصالح معينة ويتباعدون على أخرى.
وكذلك، يلتقي الإيرانيون مع الفرنسيين على بعض المصالح ويتباعدون على أخرى. أمّا تركيا وإيران فباتت تجمعهما المصلحة في ملفات عدّة. ويتحدث بعض المراقبين عن تقارب مُتنامٍ بينهما يمكن أن يؤثّر على التوازنات الإقليمية.
يؤدي الأتراك دوراً أساسياً في فكّ الحصار الأميركي عن إيران. فأنقرة هي المستورد الأول للغاز والنفط الإيرانيين. والبلدان ينسّقان الخطى في العراق ويتبادلان الخدمات لمواجهة «حزب العمال الكردستاني»، ويوحيان بأنهما يلتزمان مواقف أكثر تشدداً في ملف التسوية مع إسرائيل. وفي اختصار، يجمعهما العداء للمحور العربي الذي تقوده المملكة العربية السعودية ومصر.
ومن الواضح أنّ الطرفين توصّلا إلى اتفاق «عدم اعتداء» في سوريا، لكنّ إيران أعلنت تأييدها للتمدّد التركي في المتوسط وليبيا. وهذا يحمل مغزى قوياً بالنسبة إلى البقعة المتوسطية بكاملها، بما فيها لبنان.
وهناك أجواء توحي، في الفترة الأخيرة، بأنّ الطرفين يتقاربان في لبنان لأنّ المصلحة تجمعهما، والهدف هو تثبيت الحضور وكبح اندفاع التمدّد الغربي، على غرار توافقهما في ليبيا وسوريا، برعاية روسية.
حتى اليوم، غالبية الساحة السنّية مضمونة الولاء للمحور السعودي- المصري. ويُصارع الفرنسيون لإنعاش هذا المحور منعاً لنمو محور آخر، بدأ يطلّ في السنوات الأخيرة، ويتردَّد أنه مُتعاطف مع تركيا. ولكن، لم يظهر حتى الآن حجم تأثيره الشعبي أو السياسي.
إذا تطوّر التنسيق بين إيران وتركيا، فقد تطرأ عناصر تقود إلى تحالفات جديدة، بين «حزب الله» وآخرين على الساحة السنّية. لكن المثير هو أنّ المناخ السنّي المتعاطف مع تركيا كان حتى اليوم الأكثر تشدداً ضد إيران و»حزب الله». وهذا يوحي بأنّ انقلابات أو متغيّرات سياسية يمكن أن تطرأ، وهذا أمر اعتادت عليه الساحة اللبنانية في المراحل الفاصلة.