على الرغم من التطورات السياسية والإقتصادية و”الكورونية” التي أعقبت اطلاق سراح العميل عامر الفاخوري الشهير قبل قرابة الشهرين، إلا أن ترددات هذه العملية لا تزال ناشطة في لبنان كما داخل بيئة “حزب الله”، كونه مرت عليه “مرور الكرام” وخارج كل التوقعات.
غير أن النعومة الأمنية والخطابية المفرطة للحزب حيال هذا التصرف، أو بالأحرى اللاتصرف، فتح واسعاً باب التكهنات، إلى أن أتى “ترياق” الجواب الشافي من العراق، من خلال أداء إيران في العراق مع الحكومة الكاظمية الجديدة ذات النفس الأميركي، فضلاً عن كلام المرشد الذي يصب مواربة في هذا الإتجاه الغربي.
اذا لم تكن عملية الإفراج عن العميل الفاخوري لتتم من دون ان يكون هناك ضوء اخضر ايراني لهذه العملية، فلمن يتابع السياسة الايرانية منذ صفقات الرهائن التي كانت بيروت مسرحها في عقد الثمانينات من القرن العشرين، يدرك ان الخبرة الايرانية والفهم الاميركي لها، يجعلان من قنوات التواصل مفتوحة لتلقي رسائل ود او تصعيد عبر القناة اللبنانية التي تتحكم ايران بها. كما كانت الحال في عشرات عمليات الخطف لرهائن غربيين في بيروت، جرى الافراج عنهم لاحقاً ضمن صفقات استثمرتها ايران ودفع لبنان اثماناً سياسية وديبلوماسية بسببها.
عملية الافراج عن الفاخوري تمت ادارتها ايرانياً، وقد يكون صحيحاً ان امين عام “حزب الله” لم يكن على علم بالافراج الذي تم عن الفاخوري بحكم قضائي كما قال هو، لكن عدم المعرفة ناتج عن ان ايران دخلت على خط هذه العملية، وكانت حريصة ان تعطي اشارة للاميركيين انها ساهمت في الافراج عن الفاخوري.
ولعل الرسالة المستجدة اخيراً ان ايران اعلنت انها مستعدة للافراج عن اميركيين معتقلين لديها من دون قيد او شرط بعدما كانت افرجت عن نزار زكا قبل اقل من عام، وهي العملية التي جرت ايضا عبر لبنان.
مرشد الجمهورية علي خامنئي في توسّعه غير المسبوق في توصيف صلح الامام الحسن مع الخليفة معاوية والاشادة به، كان يطلق ايضاً المزيد من رسائل الودّ لواشنطن، وجاء في تغريدة خامنئي: “أعتقد أن الإمام الحسن المجتبى هو أشجع شخص في تاريخ الإسلام. حيث استعد للتضحية بنفسه وباسمه بين أصحابه والمقربين منه، في سبيل المصلحة الحقيقية، فخضع للصلح، حتى يتمكن من صون الإسلام وحماية القرآن وتوجيه الأجيال القادمة في التاريخ في وقتها”.
وخامنئي في اشارته الى هذه الواقعة يمهد لمزيد من تبرير التقارب المرتقب مع واشنطن التي كانت اغتالت احد ابرز رموز ايران العسكري – السياسي، قاسم سليماني، في وقت كان يتوقع اتباع ايران ولا سيما في العراق ان تقوم مواجهة كبيرة بين الدولتين اثر هذا الاغتيال، لكن الوقائع اظهرت ان الرد الايراني اقتصر على بعض العمليات المحدودة والتي لا ترقى الى مستوى الرد على سليماني.
ما جرى اخيراً مع تولي مصطفى الكاظمي رئاسة الحكومة، ان ايران أقرت بعدم قدرتها على الامساك بمفاصل السلطة العراقية، وتولي الكاظمي وهو رجل المخابرات الاقرب الى واشنطن منه الى ايران، والمنحاز الى ترسيخ دور الجيش والاجهزة الامنية الرسمية وتهميش دور ميليشيات الحشد الشعبي، هو تراجع ايراني في العراق، واستجابة ضمنية للضغوط الاميركية التي اظهرت في اغتيال سليماني ان ثمة شيئاً اختلف عما سبق.
التراجع الايراني نحو سعي لتفاهم مع واشنطن، في ملفات ايرانية تتصل بالعقوبات الاميركية والدولية، يتم من خلال الاستجابة للضغوط الاميركية خارج ايران، طبعاً لا تريد ايران ان تستخدم او تقدّم رأس مال نفوذها، هي تدفع من الفائدة وليس أصل النفوذ حتى الآن، لكن ذلك لا يبدو قابلاً للاستمرار اذا ما بقي خارج تفاهمات واتفاقات جدية مع واشنطن، التراجع الايراني في الهلال الشيعي، بات واضحاً، وما يطال العراق من تراجع واهتزاز للنفوذ الايراني، فسوريا مرشحة لان تكون ساحة مواجهة وتصفية او تسويات على حساب النفوذ الايراني.
الحاجة الايرانية الى متنفس اميركي باتت واضحة من خلال تراجع النبرة التصعيدية الايرانية، على رغم شراسة العقوبات الاميركية، والرسائل الايرانية الايجابية من العراق الى لبنان، لا ترتقي الى مستوى محرج لإيران بعد، وهي كما بدا واضحاً يتم دفعها من حساب اللبنانيين او العراقيين، او السوريين.
على ان ذلك كله لا يعني ان لبنان امام مرحلة من التفاهم الايراني الاميركي، بل على العكس من ذلك. فسياسة العقوبات وتصعيدها ضد “حزب الله” مستمرة ومرشحة لمزيد من التصعيد، وهو مستوى من المواجهة لا يخلّ بما يجري بين طهران وواشنطن، فالموقف الاميركي من “حزب الله” يتجاوز العلاقة مع طهران، فهو حزب ارهابي بنظر واشنطن ويجب ملاحقته ومعاقبته، بخلاف النظرة الى ايران التي تبقى دولة ونظاماً وشعباً، اما “حزب الله” فهو ميليشيا يجب ان تنتهي كمنظمة أمنية وعسكرية.
قنوات الاتصال تبقى هي المؤشر الى ان مسار العلاقة بين واشنطن وطهران يتقدم، عبر المزيد من محاولة ايران عدم التصادم مع واشنطن، وعبر تقديم الهدايا او التنازلات لها، بعدما اظهرت ايران انها استنفدت وسائل التصعيد العسكري في المنطقة وتبحث عن تسوية تحد من الخسائر والإختناق المالي والاقتصادي. “من يعش يرَ”!