في هذه الحلقة الثانية من رصد تحديات النظام الديني الإيراني نشير إلى أن الكثيرين ربما ينسون ولاسيما بعد الاتفاق النووي السداسي ( إيران و خمسة + 1) أن الصراع الفعلي داخل النخبة السياسية والحاكمة الإيرانية لا يدور فعلياً بين محافظين وإصلاحيين وإنما بين محافظين ومحافظين، فالفريقان كلاهما محافظ. الأول متشدِّد والثاني منفتح أو أقل تشدُّداً!
ربما تكون إيران الآن، إذا أردنا المقارنة مع الثورة الفرنسية، في ذروة حروبها “النابوليونية”. الحروب النابوليونية الفرنسية استغرقت حوالي ستة عشر عاما أعقبها ارتدادٌ ماضويٌّ استغرق ما يعادل تقريبا هذه المدة. تسمية “نابوليونية” هنا تأتي من توسعها خارج الحدود وليس من حيث أنها حروب غزو مباشر. “نابوليونية” النظام الديني الإيراني عكسية: انتشار دون تحمل مسؤولية الغزو الدولتي.
بعد أكثر من خمسةٍ وثلاثين عاما لا تزال إيران في قلب ثلاث حروب في المنطقة المحيطة بها هي سوريا والعراق واليمن وأزمتين مستعصيتين هما لبنان والبحرين وبيئة متوترة هي غزة. لكنْ ما تصحّ أكثر حاليا ربما مقارنة ليس البدايات الفرنسية وإنما نهايات الثورة البلشفية. فكلتا الثورتين، الإيرانية بعد 35 عاماً والسوفياتية بعد سبعين عاما، جعلتا من التسوية الخارجية، مع الولايات المتحدة الأميركية والغرب نقطة انطلاق للبدء بمرحلة “اندماج” في الاقتصاد الغربي المهيمن على العالم.
التسوية الخارجية السوفياتية قضت على النظام السوفياتي سريعا لأن نسبة اهترائه الداخلي المترافقة مع هزائم خارجية سياسية في بولونيا وعسكرية في أفغانستان ظهرت فتّاكة له. في إيران، صحيح أن التسوية النووية تأتي في سياق صعود إيراني جيوسياسي يقوده النظام ولكنْ ليس ثابتا ما إذا كان هذا النظام الديني قادراً في العقد أو العقدين التاليين على استيعاب الدينامية التغييرية الهائلة التي يعنيها ويحملها الاتفاق النووي. على الأرجح أنه في “عقل” المؤسسة المسيطرة على النظام الإيراني نوع من رهان “صيني” من حيث القدرة التي أظهرها الصينيون في إطلاق التغيير الاقتصادي والاحتفاظ بالنظام الأيديولوجي نفسه؟ وكل ذلك حدث في شرق آسيا بعد الانتهاء التدريجي للحروب الفرعية المحيطة في فيتنام ولاوس وكمبوديا. وفيتنام نفسها رغم تنافسها الجيو سياسي مع الصين تحافظ على التوازن نفسه بين التغيير الاقتصادي والنظام الشيوعي.
هناك تيار في الغرب يعتبر الثورة الإيرانية ثورة من عيار تاريخي ثوري فرنسي وروسي. صعبٌ التسليم بهذا الرأي على أكثر من مستوى. لكنْ بمعزل عن اختلاف الأحجام والعصور بين هذه الثورات الثلاث فهي تنتمي كلها إلى معادلة جعل العالم بعدها غير ما هو قبلها، سلباً وإيجاباً. فلقد أطلقت الثورة الإيرانية دينامية الأصولية الإسلامية التي هي أُمُّ كلِّ الحيويات الأصولية السنية والشيعية، الأصوليات التي وُلِدَتْ بعد الثورة الخمينية كحركات المجاهدين الأفغان وطالبان والقاعدة وداعش أو الحركات الأقدم ولادةً ولكن التي ازدهرت أو صَحَتْ بعدها، كالإخوان المسلمين وحزب الدعوة العراقي.
كذلك أيضاً فالثورة الإيرانية هي البيئة التي وُلِدتْ بعدها توتراتُ الإسلام الغربي، داخل أوروبا وأميركا الشمالية وأستراليا، بما جعل هذه المسألة معلما متأزِّماً ثابتا في الحياة الاجتماعية والسياسية الغربية. ولْنتذكّر على المستوى الثقافي أن قضية سلمان رشدي انفجرت كواحدة من أبرز القضايا الثقافية في القرن العشرين بعد فتوى الإمام الخميني.
ومثلما تنتمي الثورة الإيرانية كحصيلة إلى سياق سقوط أيديولوجيات علمانية وليبرالية سبقتها في العالم المسلم وحمَلَتْها النخبُ المسلمة فإن توترات علاقة المسلمين داخل المجتمعات الغربية التي باتوا يعيشون فيها هي أيضا حصيلة هذا المد الأيديولوجي الأصولي الذي أيقظَتْه الثورة الإيرانية حتى لو كانت غالبيته الآن، وهي سنية، تعادي الشيعية الخمينية.
هذه هي الخطورة التاريخية و”رتبتها” التغييرية للثورة الإيرانية وإن كان أي مراقب محايد سيتحفّظ على المضمون التغييري الحضاري للتيارات الأصولية كلها في عالم اليوم. لأن الحركات الأصولية وتّرت العلاقات مع الغرب، أيا تكن الأسباب مشروعة أو غير مشروعة، إلا أنها لم تقدِّم حلا ناجحا لمسألة علاقة الإسلام بالحداثة ولا يزال مشكوكا بقدرتها على ذلك. ففي بلد مسلم كتركيا أحرز إنجازاتٍ تحديثيةً، هذه الانجازات، في تاريخها الفعلي، هي حصيلة الخيار العلماني وليس الأصولي حتى لو كان على رأسها اليوم حزب إسلامي أصولي هو “حزب العدالة والتنمية” بات يحمي آخر ما تبقى من “الإخوان المسلمين” في العالم العربي.
بعد الاتفاق النووي، وفي مضمونه العميق، بدأت إيران تجربة التحديث الاقتصادي عبر الخيار الغربي.
الملاحظة الضرورية هنا أن الكثيرين ينسون ولاسيما بعد الاتفاق النووي السداسي ( إيران و خمسة + 1) أن الصراع الفعلي داخل النخبة السياسية والحاكمة الإيرانية لا يدور بين محافظين وإصلاحيين وإنما بين محافظين ومحافظين، فكلا الفريقين محافظ. الأول متشدِّد والثاني منفتح. المكوِّن الحقيقي غير المحافظ هو النخب الشبابية والنسائية والثقافية المدينيّة الموجودة في المجتمع والدياسبورا الإيرانية والتي يحاول النظام في مشروعه الجديد الغربي إما ضبطها وإما استقطابها.
الملاحظة الثانية والتي أظنها مهمة جدا في أي مرصد للوضع الإيراني الجديد هي أن خيار التسوية مع أميركا والغرب لم يأخذ قرارَه “الإصلاحيّون” وإنما المحافظون الذين حموا، عبر المرشد والحرس الثوري، المعتدلين الذين لعبوا هذا الدور على المسرح. إذن الصراع ليس فعليا على خيار التسوية نفسها مع أميركا وإنما على الضبط الأيديولوجي الداخلي لنتائج هذه التسوية.
هذا ما يراهن عليه الغرب بحس خبرته التاريخية في ديناميات التغيير كما بتفوقه الحضاري الأكيد.
إذن نحن أمام مشهدٍ مفارِقٍ جدا: إيران دولة صاعدة جيوسياسيا، نظام ديني دخل مرحلة الممانعة الطويلة من أجل البقاء ضمن هذه الحيوية الهائلة، ونخبة شبابية ونسائية علمية وثقافية واقتصادية ذات رهان غربي عميق ولكن لا شك بثقافتها المسلمة، وليس الإسلامية.
تكرّست دولة أمة فرنسية تقود امبراطورية عالمية في منافسة الصعود الانكليزي في القرن التاسع عشر بعد الثورة الفرنسية في نهاية القرن الثامن عشر، وتكرّست امبراطورية عالمية بقيادة الدولة الأمة الروسية وتوسّعت بعد الثورة البلشفية في الربع الأول من القرن العشرين.
ليس مستَبعَدا ولو بأحجام أقل نوعياً بكثير من الروس والفرنسيين أن تترسخ وتتوسع ثلاث قوى: “امبراطورية” إقليمية شرق أوسطية لا تزال متخلِّفةً اقتصاديا بقيادة الدولة الأمة الإيرانية بعد الثورة الخمينية وتتنافس مع الدولة الأمة التركية التي تحاول حاليا الخروج من دون نجاح يُذكَر من حدودها السياسية الجغرافية بعدما خرجت اقتصاديا من هذه الحدود في العقود الثلاثة المنصرمة، كما مع إسرائيل الدولة الأمة الفريدة التركيب الديني والقومي والتي باتت قلعة عسكرية وجزيرة تكنولوجية متقدمة غربية في محيطها المنكوب… أي نحن.