اشتغلت إيران، في السنوات السابقة، في سورية، تحت سقف خسائر مقبولة الاحتمال، وكلما كانت الخسائر تتوزع على وكلائها وحجم مصاريفها المالية كان مستوراً، فإن هامش المناورة للنظام الإيراني، داخلياً وخارجياً، كان بأمان، وسمح لقادة إيران بالتفاخر بتوسع نفوذهم ليشمل العواصم الأربع الكسيرة.
بيد أنه، ومع تواتر الضربات الإسرائيلية، المؤلمة، وخسارة إيران الكثير من كوادرها ومخازن أسلحتها، بدأت تتجمع خطوط ورطة تتعمَق فيها طهران، ولا يبدو أن إيران قادرة على وقف انحدارها السريع إلى قعرها، ولا إسرائيل لديها الرغبة في وقف غاراتها، بل إن هذه الأخيرة فرضت قاعدة اشتباك في سورية تقوم على حقّها في ضرب أي هدف إيراني تشتبه إسرائيل أنه سيشكل جزءاً من البنية التحتية للوجود الإيراني، أينما كان ذلك في الجغرافية السورية.
وكانت الذهنية الإيرانية ذهبت إلى اجتراح إستراتيجية عسكرية لترسيخ نفوذها في سورية وفرضه كأمر واقع، وذلك من خلال بناء أنساق دفاعية من الشمال والغرب والشرق إلى الجنوب، وليس العكس، وذلك لتجنّب استهداف إسرائيل لمواقعها، وعلى هذا الأساس، شيّدت إيران قواعدها الكبيرة في جبل عزان في حلب واللواء 47 في حماة، ومطار التيفور في البادية، فضلاً عن مواقع في حمص والقلمون الغربي، وعندها لن يكون مهماً زراعة قواعد أخرى في الجنوب، أو في منطقة الحرم المتفق عليها، مسافة الأربعين كيلومتراً، لأن تزويدها بالأسلحة والكوادر سيكون متيسراً في أي وقت.
أرادت إيران استثمار مظلة الحماية الروسية على مناطق وسط وغرب سورية، أو بمعنى أدق، استغلال واقع أن هذه المناطق تقع في نطاق عمل القوات الروسية، وفي شكل أوتوماتيكي، تقع في مجال أسلحة دفاعها الجوية، ما يصعّب على إسرائيل، وحتى أميركا، إمكانية استهداف هـذه المواقع ويضعها في أمان مديد.
غير أن إسرائيل وعت هذه الإستراتيجية، من منطلق إدراكها أن الجغرافية السورية صغيرة لدرجة يمكن للإمدادات الإيرانية أن تصل لجبهات درعا والقنيطرة في ساعات محدودة، وأنه من الأفضل ضرب تلك القواعد قبل أن يتم تحصينها، من دون الانتظار لضرب خطوط الإمداد التي ستقيمها إيران بين القواعد والجبهات، كما حرمت إيران من ميزة الحماية الروسية جراء اتفاقات بين موسكو وتل أبيب تضع الأمن الإسرائيلي في مستوى الخطوط الحمر غير المسموح تجاوزها، ومن الأراضي السورية على وجه التحديد.
تتمثل ورطة إيران الحالية من كونها جهة غير مجهّزة لاستعمار دول وشعوب بقواها الذاتية، ربما تصلح لدور شبيه بالدور الذي لعبه نظام الأسد في لبنان، لكن ذلك يستدعي وجود موافقة دولية وإقليمية، وموقف منزوع الانحيازات الطائفية، ولا يمكن في هذه الحالة استنساخ تجاربها في لبنان والعراق، ولا حتى اليمن، بل من الممكن أن تتحوّل هذه التجارب إلى سقطة خطيرة لما تنطوي عليه من خداع، ذلك أن إيران في سورية مضطرة إلى نزع قفازاتها وإجراء الترتيبات في شكل مباشر وليس مجرد الإشراف عليها.
وفوق ذلك، لا تملك إيران الأدوات الكولونيالية اللازمة لاستعمار شعب خارجي، فلا هي دولة متحضّرة لتدعي التنطح لمهمة تحضير أي شعب، ولا هي دولة ذات نموذج حياة وإدارة سياسية تستدعي من الآخرين اللجوء إليها وطلب حمايتها، إضافة إلى ذلك لا إمكانات لديها للدخول في صراعات إقليمية ودولية كبرى، لكنها وجدت نفسها في هذا الخضم من دون استراتيجية خروج، بالأصل دخولها على سورية تدرّج على شكل ورطة وغرق ولم يكن له تصور واستراتيجية واضحة، أخذ شكل مساعدات استخبارية من واقع خبرتها في قمع انتفاضة، 2009 ثم إرسال مستشارين عسكريين لغرف عمليات نظام الأسد، نتيجة ضعف الخبرة لدى ضباط الأخير، ثم الاستعانة بحزب الله، ثم الميليشيات العراقية والأفغانية والباكستانية وتبعه دخول الحرس الثوري.
عملانياً، تتجسد الورطة الإيرانية في المفاضلة بين الرد على إسرائيل، وبين إدراكها أن الأوضاع في سورية ما زالت تحتاج لترتيبات كثيرة حتى تستقر الأمور لإيران، حيث تفضل إيران استيعاب الضربات الإسرائيلية، التي على رغم تأثيراتها المؤلمة، إلا أن إيران تستطيع، عبر المثابرة، تكريس نفوذها في سورية والمنطقة وفرض نفسها كقوّة أمر واقع، في حين أن الاستعجال في مواجهة إسرائيل من شأنه تقويض المشروع الإيراني برمته.
لكن في كلا الحالتين، لا يبدو أن المشروع الإيراني سيعمل بانسيابية وسهولة كما كانت تقديرات القادة الإيرانيين تتصوره، والواضح أن حسابات الإيرانيين لا تتطابق كثيراً مع الواقع الذي تفرضه إسرائيل، حيث لن يبقى نفوذ لإيران في سورية في ظل حالة الاستنزاف التي تفرضها إسرائيل، كما أن هذا الواقع سرعان ما ينعكس على الداخل الإيراني، الذي يراقب مذلة حكامه الذين يتنمرون عليه ويبدون كالقطط الوديعة أمام إسرائيل، والواقع أن سابقة إذلال بشار الأسد وانسحاب جيشه المخزي من لبنان كانت من العناصر التي شكلت محركاً للثورة السورية.