لم يخطئ الذين قالوا أنّ العالم اليوم موحّد كما لم يكن مرّةً من قبل، ومفتّت كما لم يكن مرّة من قبل.
إيران تقدّم لنا بعض أبرز الأمثلة: النظام الخمينيّ، منذ قيامه في 1979، يطوّر نموذجاً يصفه بأنّه خاصّ. هذه هي المحاولة الرابعة الكبرى في القرن العشرين لتطوير «نموذج خاصّ»: البلشفيّة الروسيّة منذ 1917، وبعدها بقليل الفاشيّة الألمانيّة – الإيطاليّة (على ما يداخلها من تباين وفوارق)، ثمّ الماويّة الصينيّة ذات «الثورة الثقافيّة»، والتي تفرّعت أصلاً عن الشيوعيّة. خصوصيّة إيران الإسلاميّة وصل بها العداء للنموذج «العامّ»، أي الديموقراطيّ الغربيّ، إلى حدّ استحضار الجنّ والعفاريت في وصفه: أميركا «شيطان أكبر».
مع هذا الاتّجاه الخصوصيّ، تواطأ مثقّفون وأكاديميّون في فرنسا، ثمّ في الولايات المتّحدة وبريطانيا. «النسبيّة الثقافيّة» ومناهضة «الاستشراق» كانتا صرختي حربهم الضروس ضدّ النموذج العامّ. بعض أسوأ المأخوذين بالخصوصيّة والعداء العنصريّ المقلوب لـ «الرجل الأبيض» طالبوا بتأميم الجامعة الأميركيّة في بيروت. هكذا، تصبح مثل الجامعة اللبنانيّة، جامعتنا. هكذا، تغدو خاصّة مثلنا.
لكنّ الخصوصيّة تفترض تعريفاً أنّ هناك نموذجاً عامّاً هو الذي تسعى إلى التمايز عنه، والتمايز عن العامّ ليس مهمّة سهلة ما دام أنّه… عامّ. يضاعف الصعوبة أنّ ذاك النموذج العامّ لا يُفرض على أحد بالقوّة. العلاقة هنا كعلاقة السوق: السلع تُعرض للمشترين ولغير الراغبين في الشراء. الاستثناء العراقيّ في 2003 ثمّ الإقلاع السريع عنه يؤكّدان تلك القاعدة. فوق ذلك، فالتجارب الثلاث السابقة في تحدّيه، البلشفيّة والفاشيّة والماويّة، كلّها لا تشجّع. حصائلها كانت كارثيّة.
لكنْ بالعودة إلى إيران، يتبدّى استعدادها لانتخابات يوم الجمعة المقبل واحداً من الأمور الكثيرة «الغربيّة» جدّاً في ذاك البلد. هنا، لا نتحدّث عن ثقافة الشبيبة الموصوفة بالتأمرك الشديد، والتي تعيش بخليط من التقيّة والتحدّي العلنيّ، خارج المحيط الأيديولوجيّ للنظام. إنّنا نتحدّث عن النظام ذاته.
فلوهلة قد يتبادر إلى الذهن أنّ الأزمة الراهنة للديموقراطيّة الليبراليّة، والفضيحة التي ألحقها بها انتخاب ترامب، فرصة للنظام الإيرانيّ كي يعفي نفسه من تقنيّة الانتخابات الغربيّة، وكي يذهب أبعد في تعزيز خصوصيّته. الدستور والقوانين، بل الانتخابات ذاتها، وهي كلّها غربيّة، صالحة للتخلّي عنها بذريعة ترامب وتعثّر الديموقراطيّة في الغرب. لكنْ لا، ذاك أنّ إيران تعتمد أيضاً، وليس للمرّة الأولى، تقنيّة المناظرات الانتخابيّة التي ينقلها التلفزيون. يقف المرشّحون الخصوصيّون الستّة تماماً كما يقف «الرجال البيض» العموميّون ممّن يترشّحون للانتخابات الأميركيّة. يتناظرون مثلما يتناظرون. بعد ذاك يتناظر الاثنان الأوفر حظّاً، واللذان يُرجّح أن يكونا حسن روحاني وإبراهيم رئيسي. في الأمر تقليد قِرديّ لا تخطئه العين. حتّى الاتّهامات بالفساد والكذب وتلفيق المعلومات التي تقاذفها وسيتقاذفها مرشّحو الرئاسة تحاكي مثيلتها في الولايات المتّحدة. أكثر من هذا، يتبدّى أنّ الجهر ببعض القضايا التي أثيرت في المناظرات الإيرانيّة، وبعض الحدّة التي شابتها، أملاهما السعي إلى تقليد ما يحصل في أميركا! الأمر يشبه متحمّساً للطبّ العربيّ لا يقصد، حين يمرض، إلّا طبيباً متخرّجاً في شيكاغو.
هل الخصوصيّة، إذاً، خرافة محضة أو زعم لا أساس له من الواقع؟ بالطبع لا. ففي إيران، وكما نعرف جيّداً، يخضع المرشّحون لعمليّات تصفية لا يبقى بنتيجتها إلّا الراسخون في الولاء للنظام والوليّ الفقيه. أمّا المناظرات فلا تطاول الثوابت والمقدّسات. إنّها تطاول هوامش السلطة والعقيدة. فالخصوصيّة، بلغة أخرى، ليست سوى تمكين القبضة الحديد للحكم ومرشده على أنفاس الإيرانيّين. إنّها تقنيّة النظام في تسمين ذاته، مثلها مثل مبدأ «السيادة الوطنيّة» حين يُطبّق بوصفه عدم تدخّل خارجيّ في قتل الحاكم المحلّيّ لشعبه.
هذه الخصوصيّة، وما تزعمه لنفسها من «أصالة»، أقصر الطرق إلى الطغيان. هذا هي مساهمتها في الحضارة.