بعيداً من التشكيك والتخمينات المتداولة عن المسؤول عن تفجيرات إيران، هل هو تنظيم «داعش» حقاً أم قوى من صلب النظام نفذت التفجيرين في سياق الصراعات الداخلية، فإن حدث تفجير مرقد الإمام الخميني ومجلس الشورى، يطرح قراءة سياسية لمسار الحكم الإيراني ونتائجه، داخل إيران نفسها في علاقتها بالقوميات التي تتشكل منها الدولة الفارسية، أو بالعلاقة مع الإقليم حيث اندفعت الى التدخل العسكري في أكثر من بؤرة ساخنة في المنطقة العربية.
ذهبت إيران في تحميل القمة الأميركية العربية مسؤولية العمل الإرهابي الذي ضربها، لكنها اعترفت في المقابل بأن المنفذين هم مواطنون إيرانيون ينتمون الى المذهب السني، بذلك حددت أن الصراع المذهبي الدائر في المنطقة يجرى نقله إلى إيران في سياق المؤامرة الأميركية ضدها. هل حقاً نحن أمام مؤامرة أم أن التناقضات القومية والعرقية والإثنية في إيران بدأت تخرج الى السطح وتعبّر عن رفضها الديكتاتورية الدينية التي يمارسها حكم الملالي ضدها؟
تتكون إيران من قومية فارسية تحتكر السلطة، وهي قومية لا يتجاوز سكانها نصف سكان إيران. فيما يتكون النصف الثاني من مجموعة قوميات متعددة ومذاهب أبرزها المذهب السني الذي يصل عدد معتنقيه الى 15 في المئة من سكان البلاد. منذ حكم آل بهلوي حتى الشاه، وبعده حكم الملالي بعد الثورة الإسلامية عام 1979، كانت هذه الأقليات القومية تخضع لنير الديكتاتورية والتمييز والحرمان السياسي والتهميش الاقتصادي ومنعها من أن يكون لها مواقع في السلطة والإدارة. مما يعني أن الحوادث الأمنية التي حصلت، والتي ستحدث لاحقاً، انما تجد جذورها في ممارسة الحكم الفارسي الاستبدادي ضد هذه القوميات. والاعتراف بإيرانية المتنفذين دليل على بدء تمرد هذه المجموعات على الحكم القائم.
على رغم أن إيران كانت تتعرض على امتداد السنوات السابقة لعمليات أمنية في أكثر من إقليم من أقاليمها، إلا أن الدلالتين السياسية والمعنوية للتفجيرين الأخيرين تبدوان كبيرة. فالحدث مرتبط عضوياً بالسياسة التي انتهجتها إيران منذ اندلاع الانتفاضات العربية، بل قبلها منذ الاحتلال الأميركي للعراق، ودخول إيران اليه على حاملة الدبابات الأميركية.
انتهجت إيران سياسة التدخل في الخارج محكومة بعدة أهداف. أرادت أن تغطي الصراعات والتناقضات الداخلية بالهروب الى الخارج وجعل المعارك فيه الحلقة المركزية في سياسة النظام. بدأت ذلك في العراق منذ 2003، فاستثمرت فيه سياسياً واقتصادياً. ثم قدمت لها الانتفاضات العربية فرصة لتوسيع هذا التدخل، وأخرجت الانتفاضات الطموحات الفارسية التي لم تكن ترى في المنطقة العربية سوى المدى الحيوي لإيران، واستعادة لحلم قديم باستعادة الإمبراطورية الفارسية التي يدخل العراق في شكل أساسي ضمن خارطتها، وأيضاً سورية. بهذا المعنى نقرأ تصريحات وزير الدفاع الإيراني مؤخراً من أن العراق بات جزءاً من الإمبراطورية الفارسية، وقبلها تصريحات قادة إيرانيين بأن إيران باتت تحتل أربع عواصم عربية هي دمشق وبيروت وبغداد وصنعاء.
توسلت إيران التدخل في المنطقة العربية عبر تأجيج النار المذهبية، وتبرير تدخلها بحماية المقدسات الشيعية في العراق وسورية. ترافق تدخلها العسكري وانخراطها في القتال بتشكيل ميليشيا صافية المذهب، مع تسعير أيديولوجي يستعيد صراعات بين القبائل العربية انقضى عليها خمسة عشر قرناً، فاتخذ التحريض الإيراني طابع الانتقام لمقتل الإمام الحسين. تحت هذا العنوان، مارست الميليشيات الإيرانية الصنع ألواناً من الانتقام والعنف الوحشي ضد المكونات الطائفية الأخرى، خصوصاً السنية منها، ما يشبه ممارسات تنظيم «داعش» في المناطق التي استولى عليها. لعب الملالي وحرسهم الثوري بنار المذهبية، معتقدين الحصانة ضد انتقال النار الى داخل بلدهم. وها هي إيران تكتوي الآن بهذه النار نفسها.
بعد مؤتمر القمة الأميركية- العربية، عاد «معسكر الممانعة» بقيادة إيرانية الى الحديث عن الخطة الأميركية للسيطرة على المنطقة العربية ونهب ثرواتها. هذا «الاكتشاف» الحديث أتى متأخراً جداً، فالخطة الأميركية قائمة منذ الحرب العالمية الثانية ولم تتوقف، وهي تستعمل أنظمة وقوى محلية في تحقيقها. يجب ألا ينسى «معسكر الممانعة» انه كان إحدى الأدوات في تنفيذ الخطة الأميركية في تقسيم المنطقة وتفتيتها. فهذا المعسكر خاض معظم حروبه في العراق وسورية تحت العباءة الأميركية، ولم يكن له أن يحقق نجاحات لولا التدخل الأميركي الجوي ضد تنظيم «داعش» وأخواته.
ليس غريباً على السياسة الأميركية إدارة الظهر لحلفائها عندما تنتهي وظيفة استخدامهم، وهو ما يحصل اليوم في المرحلة التي تدخل فيها المشاريع الإقليمية المتصارعة مرحلة قطف ثمار الحروب الدائرة. لا تريد أميركا إسقاط النظام الإيراني، فهو كان ولا يزال حاجة سياسية وعسكرية لها منذ الشاه حتى اليوم، تستخدمه فزاعة في وجه دول الإقليم والخليج بخاصة. لكن السياسة الأميركية الجديدة تريد انتهاء وظيفة إيران وميليشياتها، لذا بات مطلوباً خروجها وعودتها الى الداخل. أما الحديث عن المؤامرة الأميركية وادعاء التصدي لها فهو حديث ممجوج ولا أساس له على الأرض.