عبر تدخّلها المباشر في معركة الفلوجة اصابت ايران غير عصفور بحجر واحد. قبل كلّ شيء، ارادت ايران بارسالها الجنرال قاسم سليماني قائد «فيلق القدس» في «الحرس الثوري» الى مشارف الفلّوجة تأكيد انّها جزء من الحرب على «داعش». لا يمكن لايران ان تترك للاميركيين الدور الاهمّ في المواجهة الدائرة في الفلّوجة التي يصرّ رئيس الوزراء العراقي السابق نوري المالكي على وصفها بانّها «وكر ارهابي». لم يوفّر المالكي صفة الّا وألصقها بأهل الفلّوجة متجاهلًا انه لعب دورًا أساسياً في توفير حاضنة لـ»داعش» عندما كان رئيسًا للوزراء.
ليس ما يشير الى ان خليفة المالكي، اي حيدر العبادي، افضل منه بكثير. لم يتجرّأ العبادي على ان يرد على قاسم سليماني عندما اعلن انّه موجود في العراق بدعوة من الحكومة العراقية!
ليست معروفة الى الآن الظروف التي رافقت سقوط الموصل في يد «داعش» عندما كان المالكي رئيساً للوزراء. لكنّ غياب الوضوح في شأن من سلّم الموصل لـ»داعش» لا يمنع من طرح سؤال في غاية البساطة: لماذا كان ذلك الاصرار على انسحاب الجيش العراقي من الموصل في الوقت الذي كان مقاتلو «داعش» يتقدمون في اتجاه المدينة، علما ان عدد هؤلاء لم يكن يتجاوز الثلاثة الاف عنصر؟
ارادت ايران بارسالها قاسم سليماني الى مشارف الفلّوجة قطع الطريق على الاميركيين. هؤلاء، لا يمانعون في ذلك في ظل الاستراتيجية التي اعتمدتها ادارة اوباما في تنفيذ ما تطمح اليه ايران ومسايرتها الى ابعد حدود. بالنسبة الى هذه الادارة، المطلوب قبل اي شيء آخر عدم اغضاب ايران من اجل ان تبقى راضية على الاتفاق في شأن ملفّها النووي. بالنسبة الى اوباما، يختزل الملفّ النووي الايراني كلّ مشاكل الشرق الاوسط. اكثر من ذلك، ان التطبيع مع ايران بات هدفاً بحدّ ذاته. لذلك يبدو مسموحاً لطهران تقدّم الصفوف في المواجهة مع «داعش» الذي كان ولا يزال خير غطاء تستخدمه لتنفيذ سياستها في العراق وغير العراق، خصوصا في سوريا.
تقوم السياسة الايرانية في العراق على التطهير المذهبي ولا شيء آخر غير ذلك. ليس افضل من «داعش» لتوفير مبرر لمزيد من عمليات التطهير التي غيّرت طبيعة بغداد، على سبيل المثال وليس الحصر.
ما الذي تريده ايران ايضا من خلال معركة الفلّوجة؟ لعلّ اهمّ ما تسعى اليه هو توجيه رسالة تؤكد من خلالها ان لا عودة الى الخلف باي شكل. العراق صار بكلّ بساطة مستعمرة ايرانية. بكلام اوضح، خاضت ايران الحرب على العراق الى جانب الولايات المتحدة. كانت النتيجة انّها خرجت منتصرة من تلك الحرب، خصوصاً بعدما انسحب الاميركيون من العراق ورضخوا لكلّ المطالب الايرانية. تريد ايران بكل بساطة القول ان العراق الذي عرفناه انتهى وانّه لا يمكن ان تتخلى عنه يوماً.
ليس مسموحاً اقامة علاقات وثيقة بين المؤسسة العسكرية الاميركية والجيش العراقي، علمًا انّه لولا الجيش الاميركي لكان صدّام حسين في السلطة الآن. هذا الجيش العراقي الذي قاتل ايران ثماني سنوات يجب ان ينتهي. لا اعتراف ايرانياً الّا بالميليشيات التابعة للاحزاب الشيعية والتي تعمل تحت تسمية «الحشد الشعبي». ليست مهمة «الحشد الشعبي» القضاء على «داعش»، بل مهمّته محصورة في تهجير السنّة العرب من مدنهم وقراهم ومزارعهم وترسيخ الشرخ المذهبي في بلد لن يعود موّحداً في يوم من الايّام. يبقى افضل مثل على ذلك، ان الهمّ الاميركي محصور في هذه المرحلة في دعم قيام كردي مستقل تتجاوز حدوده ما يعرف بكردستان العراق.
من حقّ الاكراد التطلع الى كيان مستقلّ بعدما حرمهم سايكس – بيكو وتلك الاتفاقات التي تلته من موقع سياسي على خريطة المنطقة. هناك ظلم تاريخي لحق بالأكراد. لكنّ هذا لا يعني ان السياسة الاميركية القائمة على استرضاء ايران مصيبة، خصوصًا ان السنّة العرب صاروا ضحيّة هذه السياسة. ما يلحق بهم من ظلم حالياً يشبه الى حدّ كبير ما لحق تاريخياً، من ظلم، في حقّ الاكراد.
لا شكّ ان ايران اثبتت مرّة اخرى انّها اللاعب الاول في العراق، بل اللاعب الاهمّ. الى متى يمكنها الاستمرار في ممارسة هذا الدور، خصوصاً انّ العراق تحوّل منذ العام 2003 مدخلاً لها الى المنطقة؟
الواضح ان معركة الفلّوجة يمكن ان تخدم ايران موقتاً. ولكن عاجلاً ام آجلاً، ستواجه ايران العراقيين، خصوصاً الشيعة العرب الذين يرفضون ان يكونوا مجرّد تابعين للوليّ الفقيه. هذا كلّ ما في الامر. ليست معركة الفلوجة سوى علاج موقت للمشاكل التي تواجهها ايران في العراق، حتّى ولو حظي تدخّلها المباشر بغطاء اميركي وبغطاء آخر من «داعش» التي لم تكن في يوم من الأيّام سوى حليف للنظامين السوري والايراني.