شكّلت إيران على مدار سنوات الربيع العربي بنية عسكرية ضخمة في المجال العربي تحاكي فيها تجربة (حزب الله) اللبناني وذلك بقصد إدامة سيطرتها على كيانات المشرق، بصرف النظر عن تأثيرها على مستويات الدولة الأخرى والتي قد تضطر في مرحلة معينة على التفاوض عليها، إذ تبدو استراتيجيتها في هذا المجال أكثر مرونة لاعتقادها أن البنى السياسية تفقد فاعليتها في بلاد يكون التأثير الميليشيوي فيها ظاهراً ودائماً لها في التجربة اللبنانية مثال.
تظهر الدراسات الخاصة بالبنية العسكرية الإيرانية في المنطقة وجود ما بين 40 الى 45 فصيلاً ميليشيوياً تتوزع على مساحة جغرافية متصلة من العراق إلى سوريا ولبنان، وتتحرك ضمن هذا الحيّز لتنفيذ مهام ذات صلة بمشروع التمدد الإيراني في المنطقة، وبظهر أن البنية العضوية لهذه التشكيلات تتكون من أفراد عرب في الغالب، عراقيون ولبنانيون، وفرضت ظروف الحرب السورية والحاجة إلى كسر الثورة تغذية هذه البنية بعناصر أفغانية وباكستانية، كما اضطرت إيران إلى الزج بعناصر من الحرس الثوري يبلغ عددهم بحسب التقارير حوالي سبعة آلاف.
ويظهر تتبع مسارات إحلال هذه البنية أنه جرى تموضعها في سياق أزمة المنطقة عبر خطة طويلة وممنهجة، يعود تاريخ حقنها في الجغرافية السورية إلى صيف 2012، حينها كان نظام الأسد على وشك السقوط النهائي، عشية محاصرة الثوار لدمشق من أغلب جهاتها، يومها وقفت منظومة الأسد أمام خيارين : إما التنازل للثوار والاعتراف بالهزيمة، وإما الانخراط ضمن المنظومة الإيرانية وإعادة تموضع الأزمة برمتها وإدخال نفسه ضمن معادلة جديدة للسلطة يتحول في إطارها جزءاً من منظومة أكبر على مستوى الإقليم، وقد اختار النظام الخيار الثاني، ربما لانعدام الخيارات الأخرى والحاح عامل الوقت وربما لأن هذا الخيار يتيح له فرص نجاة أفضل.
كانت أولى ترتيبات هذا التحول تفجير ما يسمى خلية الأزمة» يوم 18 /7/2012، التي كانت بمثابة عملية تنظيف لمراكز القوة من الاطراف التي كان النظام يشك بأن لديها قنوات تواصل مع جهات إقليمية ودولية وقد تشكل بدائل مستقبلية لسلطته، وقد استفاد النظام حينها من قلة خبرة الثوار الإعلامية ومن خلال اختراقه لمستويات معينة بالثورة ليدس خبر ان الثوار هم من كان وراء العمل، وكان من السهل تمريره يومها في عز انتشاء الثوار الذين يحاصرون دمشق ومن أجل رفع منسوب الثقة لدى قواعدهم وبيئاتهم، تبعت هذه الحادثة زيادة تشظي الجيش وتدمير بنيته، وقد اعترف رأس النظام أكثر من مرة ان أجهزته سهلت إنجاز هذه المهمة وفتحت المسارب وغضت النظر عن حالات انشقاق بعض القيادات والعناصر، وقد بينت الحوادث اللاحقة أن إيران تقف وراء هذه الخطة التي ادت إلى تدمير بنى الجيش في سوريا والعراق على مستويات العقيدة والبنية اللوجستية وذلك بهدف إعادة هيكلة هذه الجيوش على أسس جديدة بما يحولها واحدة من ميليشياتها المتعددة.
مع تطور الاحداث باتت منظومة الأسد تحت رحمة إيران وفي خدمة أهدافها كليا، ولم يعد الامر يقتصر على إنهاء الثورة السورية بقدر ما هو مرتبط بحلم إيران الإمبراطوري، وقد زاد من حدة تغلغل هذه البنية الجسم السوري خسارة النظام بعد الثورة لشرايين التغذية التقليدية للجيش والمتمثلة بالأرياف والعشوائيات نظرا لكثافتها السكانية وفقرها الذي كان يلزمها الالتحاق بالجيش، هذا من جهة، ومن جهة اخرى فإن النظام الذي بات يعتبر كل السوريين، أو الجزء الاكبر منهم هم اعداء محتملون ضده فكان يحتاج إلى وجود معادل موضوعي مساو في العدد لحمايته من السوريين، فضلاً عن رغبة النظام بالحفاظ على مراكز المدن ليبقي على شرعية الامر الواقع امام العالم الخارجي، ولم يكن ذلك ممكنا دون استدعاء كل هذا الكم من الميليشيات الإيرانية.
نتائج تركيب البنية القتالية الإيرانية في سوريا كانت لها أثار بالغة السوء، ذلك ان عناصر هذه البنية غالبا هم من بيئات تكفيرية أصلاً، فضلاً عن كونهم يشكلون عمق القاع في هذه البيئات المهمشة والمفقرة، وجرت تعبئتهم ببرنامج ديني عقيدي يحفز على القتل تحت ذريعة الثأر، وبالتالي فإن كل عنصر من هذه البنية ينظر لكل السوريين على انهم أعداؤه المستهدفون وأن قتلهم أمر شرعي وواجب ديني، ولم تدخر المرجعيات الخاصة بهم جهودها في تحفيزهم على الثأر لدرجة أنها ذهبت إلى حد تدعيم سردية المظلومية بعناصر جديدة ، مثلما فعل المرجع السيستاني عندما كشف أن عمر بن الخطاب تسبب بقتل فاطمة بنت النبي، وكأن السردية القديمة قد تراجعت قدرتها على التحشيد للثأر!.
وما زاد من سوء هذا الواقع هو امتلاك عناصر تلك البنية لصلاحيات تخولهم فعل كل شيء فلا قانون يحكم سلوكهم ولا رادع ولا مرجعية، ولو افترضنا إمكان حصول محاسبة بدرجة معينة فإن كل عنصر بإمكانه أن يتذرع بتعرضه للخطر وبالتالي يجوز له فعل ما يرتئيه لحماية نفسه، وقد ساهم هذا الأمر بدرجة كبيرة بحصول عمليات النزوح الكبيرة إلى خارج سوريا حيث لم يعد ممكناً بأي حال التعايش مع هذه الأوضاع وبات البقاء في مناطق تواجد هذه الميليشيات بالنسبة للكثير من السوريين نوعاً من الانتحار المجاني، والدليل على ذلك أنه رغم قسوة الضرب بالبراميل المتفجرة ومختلف أنواع الأسلحة ورغم الحصار الجائر ما زال هناك سوريون كثر في مناطق سيطرة الثوار لاعتقادهم أن لهم فرصاً في الحياة عكس نظرائهم في المناطق التي تسيطر عليها الميليشيات التابعة لإيران.
المشكلة أن البنية العسكرية الإيرانية باتت تتعامل مع مختلف مكونات الشعب السوري بمنطق المحتل من دون أن يكون لها الحق في الحماية التي تؤمنها قوانين الاحتلال، وهي تسعى الى فرض طقوسها وعقيدتها وثقافتها على مجتمع مخالف لها بكامله، مع ملاحظة أن عدد الشيعة في سوريا يقل كثيرا عن عدد شهداء الثورة السورية، وربما لتلافي هذا الأمر تجري عمليات تجنيس وإعادة توطين لعناصر عراقية وأفغانية وإيرانية في دمشق وحلب.
على ذلك فإن البنية العسكرية الإيرانية هي شكل من أشكال الاستيطان بعيد المدى بعد أن جرى إفراغ مناطق شاسعة من سوريا، ويجري الإعداد لتفريغ مناطق جديدة حيث تتكاثر المؤشرات على نية المنظومة القتالية الإيرانية شن هجوم كاسح في بداية الربيع على أكثر من جبهة، في درعا والقنيطرة والقلمون وريف حماة وريف اللاذقية بالإضافة إلى حلب، وتسعى إيران إلى زج عشرات آلاف العناصر من الميليشيات العراقية بعد أن تكون هذه قد أنجزت السيطرة على الرمادي والموصل.