Site icon IMLebanon

التزامات إيران التي لا تهمّنا!

يتسلى المتفائلون في تسويق فرضيةّ مفادُها أن «الصفقة الجيدة» التي تحدثَ عنها الرئيسُ الأميركي باراك أوباما في شأن البرنامج النووي الإيراني ستقودُ إيران نحو اعتدالٍ وربما انقلاب في ممارسة السياسة. وبين التفاؤل والسذاجة خيطٌ رفيع. ولئن كان في تلك الخريطة المستشرفة منطق، فما نعرفه عن طهران بالملموس لا يتحملُ الوثوقَ بآفاق جلّها نتاجُ تنجيم وأكثرها يندرجُ في ميادين التمني. فإذا ما استقدمت إيران العالمَ إلى مائدةٍ على شرفها وحدها، واستدرجته لتوقيع ما يشبه المعاهدة، معها وحدها، فذلك عائدٌ، في العقل الحاكم في طهران، إلى خريطة طريق أخرى، وهذه المرة ليست مستشرفة، بل ناجزة، منذ أن قاد الخميني الجمهورية الإسلامية. لقد عمل فريقُ الرئيس حسن روحاني، بقيادة وزير الخارجية محمد جواد ظريف، وفق ما رسمه الوليُّ الفقيه علي خامنئي. حتى أن هذا الأخير كان حاضراً على طاولة المفاوضات، فتُحصِّنُ تصريحاته النارية مناعةَ مفاوضِه في جنيف أو فيينا. في ذلك يرددُ الخبثاء أن انتخاب روحاني، أو السماحَ به، هو في الأصل مناورةٌ من المرشد للخروج من هذا النزاع مع الشيطان الأكبر، وفق المخارج التي يرسمها المرشد. وفي مهازل ذلك، تستمرُ الصحف المقربةُ من المرشد في انتقاد الاتفاق الذي تمّ التوقيعُ عليه بمباركته.

تقدّمَ العالمُ باتجاه إيران مفاوضاً، بما يوحي أن العالمَ قابلٌ بإيران كما هي عليه، فلا يرومُ تغييراً أو انقلاباً أو تبدلاً في شكل ومضمون وسلوك نظام الوليّ الفقيه. تقدّمَ العالمُ باتجاه إيران مفاوضاً وهو مدركٌ أدوار إيران في المنطقة، من أفغانستان إلى اليمن، مراقبٌ عبثها في العراق وسوريا ولبنان. تقدّمَ العالمُ في هذا التمرين مقللاً مما تثيره تلك المقاربة «الحنونة» من شكٍّ وريية وقلق لدى دولٍ في المنطقة تُعتبر حليفاً تاريخياً للغرب عامة والولايات المتحدة خاصة. فلماذا سيكون على طهران أن تغيّر حصاناً رابحاً؟

يعوّل المتفائلون على تبدّل في سلوك إيران إزاء ملفات المنطقة. في سورية ينتظرون تسويةً تساهمُ فيها إيران بإيجابية. وفي العراق من يتنبأ بتراخي القبضة الإيرانية بما يوسّع هامش مناورة العراقيين على حساب سطوة الجار القوي. وفي لبنان من يصلي لأن تأتي «فيينا» برئيس لجمهوريتهم، فيما في المنطقة من يستجدي صلوات أخرى تنهي حرب اليمن باتجاه تطبيع لعلاقات إيران بدول الخليج. ويقول لسانُ حال الحاكم في طهران إننا مارسنا بلطجةً سياسية وعسكرية وأمنية فأثمر الزرع نبتاً تمّ قطافه. مارست طهران – الثورة ما سماهُ الغرب نفسه إرهاباً منذ احتجاز رهائن السفارة الأميركية في طهران (1979)، مروراً بتفجيرها وتفجير ثكنة مارينز في لبنان (1983) وخطف رعايا غربيين هناك في الثمانينات، وليس انتهاء بمسلسل التفجيرات في باريس وعواصم أخرى. تدخلت إيران بالدم والنار لفرض هيمنة في شؤون المشرق ودول الخليج. فاقم الحكم في إيران تنامي الفتنة السنّية الشيعية، على نحو باتت المنطقة مقسّمة منقسمة على أساس مذهبي مقيت. وفق هذه الشروط وهذه المواهب فازت طهران بمباراتها.

لا تهمنا تداعياتُ هذا «الفوز» على إيران في المستقبل البعيد، ومدى نجاعته في إحداث تغيير إيجابي داخل العقليّة الحاكمة في طهران. هو «فوز» دليلُه قلق دول المنطقة منه. وفي القلق وجاهةٌ لن تبددَها تطميناتُ سيّد البيت الأبيض ورُسُله إلى عواصم المنطقة. في بديهية الأشياء أن تعليق، وليس إلغاء، برنامج إيران لصنع قنبلة نووية شأنٌ يتعلقُ بأمن إسرائيل وهواجسها، وليس هماً عربياً في الجوهر. ذلك أن ما يقلق العرب هو الطبيعة العدوانية للنظام في طهران وليس قنبلته النووية. فلم يكن العرب ليقلقوا من برنامج نووي إيراني، لو كان نظام طهران صديقاً لا يتسلل غازياً إلى يومياتهم ويتدخلُ في مصير غَدِهِم. بكلمة أخرى «إنجاز» فيينا في تدابيرِه وتفاصيله التقنية شأنٌ لا يهمنا، بل يجب أن لا يهمنا في جانبه النووي. بمعنى آخر، ليس مهماً ما تلتزم به إيران في ذلك الاتفاق، بل ما يلتزم به العالم مكافأة لها. ما يهمنا أن الاتفاق يزوّد إيران بوفورات نقدية، ثم بانفتاح اقتصادي مع العالم ينعشُ قطاعاتها الاقتصادية، بما يوفّر لنظام إيران أدواتٍ إضافية لممارسة ما اعتاد أن يمارسه، ولا سبب يدعو لعدم الاستمرار في ممارسته.

في الدعوة إلى التعامل بإيجابية مع منجز فيينا تبسيطٌ لا يتّصل بحكمة. المبادرةُ في ذلك تقع على عاتق إيران وحدها. الإيرانيون وحدهم من يقرر كيف سيقاربون الاتفاق في بعديْه البيتي والخارجي. لم يُسجَّل للعربِ تدخل في شؤون إيران الداخلية، ولم يسجَّل لطرف عربي أنه اعتبر دعم الأحوازيين أو استغلال صدامات ماهاباد أو تمويل السنّة في بلوشستان… إلخ، جزءاً من أمنه الاستراتيجي، كما لم يسجّل أن إيران نفسَها وجدت دليلاً في هذا الشأن. بالمقابل يُسجِّل العرب، وبإقرار إيران، تدخلَ طهران في شؤونهم في ملفات لا داعي لتكرارها. وعلى ذلك، المطلوب من المعتدي أن يقررَ ما إذا كان «فيينا» مناسبةً للإمعان في غيّ، أو الارتقاء نحو نضج ينظر للعالم والجيران بعين الحكماء لا بنزق المراهقين.