تسيطر مشاعر العداء على العلاقات الأميركية – الإيرانية منذ أكثر من أربعين سنة، أي منذ انتصار الثورة الإيرانية عام 1979، ومهاجمة السفارة الأميركية في طهران وحجز حرية مئات الديبلوماسيين الاميركيين وأخذهم كرهائن لدى النظام. وترتفع سخونة هذا العداء بين الحين والآخر لتضع المنطقة برمتها امام مخاطر اندلاع حرب إقليمية مدمرة. تفاءل العالم بأن مجيء إيران الى طاولة المفاوضات مع القوى الدولية (خمسة زائد واحد)، والتي انتهت بتوقيع المعاهدة النووية والتي قيّدت الأبحاث النووية. وبشكل يمنع إيران من الحصول على قنبلة نووية خلال عقد كامل على الأقل.
لم يعجب ما تحقق عبر الاتفاقية النووية إسرائيل واللوبي الصهيوني الداعم لها في الولايات المتحدة. كما انها لم تعجب القاعدة البروتستانتية المحافظة، وهذا ما دفع دونالد ترامب الى اعلان استعداده لإلغاء هذه الاتفاقية اذا ما انتخب رئيساً للولايات المتحدة. وبالفعل فقد وفى ترامب بالوعد. فشنّ حملة على سياسات سلفه باراك أوباما، ضمن حملة لتبرير قرار الغاء الاتفاقية من جانب واحدة بالرغم من كل الاعتراضات والتحذيرات التي صدرت عن جميع الشركاء الآخرين في الاتفاقية. لم يكتف ترامب بإلغاء الاتفاقية قبل سنة من جانب واحد، ولكنه ارفق هذا القرار بمجموعة من العقوبات القاسية ضد إيران، والتي لم تكتف بالعقوبات الأميركية ضد الجمهورية الإسلامية، بل توسعت لتتحول الى عقوبات شاملة. بعد ان هددت اميركا مصالح كل الدول والشركات العالمية التي تتعامل مع إيران في مختلف المجالات الاقتصادية والمالية والتجارية، وصولاً الى منع شراء النفط والمعادن الايرانية.
يبدو بوضوح ان نظام العقوبات الجديد يتعدى في مفاعيله نظام العقوبات القديم الذي كانت تشارك فيه الأمم المتحدة والاتحاد الاوروبي. وخصوصاً ما يعود منه للصادرات النفطية، والتي وعد ترامب بقطعها بالكامل، بالإضافة الى الحصار المالي الصارم، والذي يهدف الى منع إيران من الحصول على العملات الصعبة التي هي بأمس الحاجة لها لتنفيذ عمليات الشراء المباشرة والتي تشمل الضروريات اللازمة للدولة وللشعب الإيرانيين. واللافت بأن الحصار المالي لم يتوقف عن تجميد جميع العمليات المصرفية، بل تعدى ذلك الى مؤسسات الصيرفة. وذلك بقصد منع الحصول على النقد الذي يمكنه ان يشكل وسيلة التفاف على نظام العقوبات.
تدرك إيران تماماً بأن وجود الحاملة ابراهام لنكولن والمجموعة المرافقة لها. بالإضافة الى أربع قاذفات ب 52 الى قطر لا يشكل تهديداً مباشراً لأمنها. وبأنه لا تتوافر لدى ترامب النيّة او الإرادة او المصلحة لشن حرب عليها. وذلك لاعتبارات داخلية تعود الى ان الشعب الأميركي يرفض كلياً فكرة الانزلاق الى حرب جديدة في المنطقة في الوقت الذي لم يتعاف بعد من الجراح التي تسببت بها حرب العراق، وخسائرها المباشرة وغير المباشرة والتي تعدت وفق آخر الدراسات أربعة تريليونات دولار.
في رأينا يستعمل ترامب هذه القوة العسكرية من أجل دعم سياساته في المنطقة وإظهار مدى جدية قراراته من أجل اخضاع إيران للقبول بمفاوضات جديدة حول برنامجها النووي، واقناعها بضرورة تغيير سلوكياتها العدائية ووقف هجماتها بواسطة وكلائها ضد المصالح الأميركية، في المنطقة. يبدو أن أميركا قد شعرت أو توافرت لها معلومات عن اعداد إيران لعمليات قد تهدد الوجود الأميركي في كل من العراق وسوريا. كما انها قد تعمد الى تهديد الملاحة في مضيقي هرمز وباب المندب والذي يشكل تهديداً كبيراً للمصالح الأميركية ومصالح الحلفاء، وذلك على ضوء التهديد الإيراني المباشر بأنها لن تسمح بتصدير النفط للآخرين إذا منعت من تصدير نفطها.
أدرك ترامب بعد زيارته للملكة العربية السعودية، مدى الاضرار التي الحقتها سياسة أوباما بمصالح اميركا وحلفائها في المنطقة، وخصوصاً استغلال إيران لهذا الفراغ الذي احدثه قرار أوباما بالانسحاب من العراق، ونفض يديه من كل أزمات المنطقة. فقرر البحث عن خيارات جديدة تؤمن المصالح الأميركية وتعيد الثقة والطمأنينة الى حلفاء أميركا. وأدت هذه المراجعة الاستراتيجية الأميركية الى الخروج بما يمكن تسميته بـ«عقيدة ترامب في الشرق الأوسط».
تنطلق هذه العقيدة من قاعدة بأن الولايات المتحدة لا تسعى للدخول في مغامرة عسكرية طوعية، ولكن ذلك لن يمنعها من التدخل عسكرياً إذا دعت الحاجة، على ان تترافق هذه الجهوزية مع وجود إرادة لفتح قنوات الدبليو ماسية والحوار مع ألدّ خصومه. ويؤيد ترامب انشاء تحالف إقليمي ترعاه الولايات المتحدة، ويضم دول الخليج ومصر والأردن، على ان تبقى إسرائيل عضواً مكتوماً فيه الى حين وضع حل لصراعها مع الفلسطينين، حيث يشكل مؤتمر البحرين الاستثماري خطوة أولى في «صفقة ألوان».
من أجل تحقيق هذه الرؤية الجيوستراتيجية في المنطقة كان لابد أن يعمل ترامب على احتواء السياسات (العبثية) التي تتبعها إيران ووكلاؤها في المنطقة، وذلك من خلال التشدد في تنفيذ نظام العقوبات، وتعزيز الانتشار الأمريكي في المنطقة من خلال استقدام هذه القوة البحرية والجوية الضاربة.
يبدو من المؤشرات الراهنة بأن حملة الضغوط المتنوعة ضد إيران قد تؤت ثمارها في المستقبل المنظور، وذلك بإقناع القيادة الإيرانية بالرضوخ تدريجياً للمطالب الأمريكية، بدءاً من التفاوض من جديد حول البرنامج النووي وتعديل سلوكياتها في المنطقة، ووقف تهديداتها وتحدياتها ضد أمريكا وحلفائها.
من أبرز هذه المؤشرات تصريح ترامب من اليابان بقوله:«لا نتطلع إلى تغيير النظام، نتطلع إلى عدم وجود سلاح نووي». وجاء الرد سريعاً على لسان وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف بقوله « لا نسعى إلى امتلاك أسلحة نووية» انطلاقاً من فتوى دينية صادرة عن المرشد الأعلى علي خامنئي.
والسؤال المطروح الآن: هل يمكن أن تشكل هذه الأزمة فرصة لإيران، ليس فقط لنزع فتيل الحرب بل لإعادة تقييم الأسباب «الجوهرية» للعداء مع أميركا ومع دول المنطقة، وبالتالي تصحيح مسار علاقاتها الأميركية والإقليمية؟
إذا حدث هذا الانفراج، فإنه يعطي فرصة للدول العربية للخروج من حالة التخبط والضياع الراهنة، والانطلاق على خطين في عملية بناء مجتمعاتها واقتصادها، وإقامة نظام عربي للتعاون الأمني والاقتصادي بعيداً عن كل أشكال المحاور والمؤامرات التي أوصلتهم إلى ما هم عليه من السوء والفوضى.