جزء من أزمة المنطقة أنها جاءت في توقيت يعيش العالم فيه انكماشا قيميا وأخلاقيا٬ وتراجعا اقتصاديا يجعل الدول الكبرى تفكر ألف مرة قبل أن تتخذ أي إجراء في إنهاء حالة سياسية متأزمة أو انهيار مفهوم الدولة وما أكثر البلدان التي تعاني من جراء ذلك. بالطبع يعتمد حجم التدخل بالدرجة الأولى على المصالح٬ ومدى التهديد الذي تشعر به الدول الكبرى جراء الجماعات والتنظيمات التي تستهدفها.
«داعش» وقبلها «القاعدة» أعلنتا حربا عالمية شعواء وفوضوية لامتلاك شرعية العمل المسلح خارج نطاق الدولة أو ما كان يسمى سابقا «شرعية الجهاد والنصرة»٬ في حين أننا نرى الآن تراجعا ملحوظا لـ«داعش»٬ وإعادة بناء داخلي لـ«القاعدة» جعلها تلتفت إلى داخل التنظيم أكثر من القيام بعمليات يسلط الضوء عليها لا سيما بعد إصرار الولايات المتحدة على جعل «القاعدة» هدفا أوليا على الرغم من تفوق «داعش» على مستوى التهديد ونوعية الضرر الذي تلحقه في المناطق التي تستهدفها.
الإشكالية الكبرى أننا الآن أمام ظاهرة لا نجد لها صدى واسعا في الصحافة الغربية٬ أو منظمات حقوق الإنسان٬ وهي تجريف المنطقة من الاستقرار وتحويلها إلى مناطق مسيطر عليها من قبل الميليشيات لكن بواجهة شرعية الدولة.. هذا الأمر يحدث في لبنان وفي العراق وتقوم إيران لتعميمه في مناطق كثيرة بدءا من اليمن والتبني النفعي لميليشيات الحوثي وهو تبٍن سياسي بالدرجة الأولى وليس دينيا كما يصّر عليه رواد ترحيل كل المشكلات إلى شماعة الطائفية السهلة.
الآن تحاول إيران الاستقواء بالجماعات والميليشيات الشيعية في مناطق جديدة من شأنها أن تجعل العالم مرهونا بتفوق ونجاح هذه الميليشيات التي تحدثت في مرات سابقة
عن تفوقها على الجماعات السنية بسبب اتحاد المرجعية والاحتماء بشرعية الدولة وتحديد الأهداف٬ وبفضل التراتبية الدقيقة والمعقدة التي يحملها المذهب الشيعي التقليدي التي انتقلت إلى الإسلام السياسي الشيعي الأنضج على مستوى آليات الحركة٬ والفصل بين الميليشيات وباقي الفعاليات الدينية٬ فالتنظيمات العنفية لا ترى نفسها ندا للتنظيمات الآيديولوجية أو حركات التمدد الناعم بأدواته الدعوية والشرعية٬ فالجميع متكاملون في خدمة المشروع العام٬ بينما حالة التنافس إلى درجة الاقتتال تسود المجموعات السنية منذ النشأة.
في ورقة بحثية مهمة نشرها معهد واشنطن للحرية كتبه الباحث المتخصص في الشؤون الخليجية والإيرانية فرزين نديم تتبع فيه ببراعة السجل الإجرامي لملالي إيران من خلال آلية التجنيد والتبني وتشكيل جماعات عرقية مقاتلة في كل المناطق التي يحضر فيه تكتلات شيعية منحازة لثورة الخميني٬ ويرصد الكاتب تحولا خطيرا حتى على مستوى الدعاية والتجنيد والشعارات الذي انتقل من الشعار المؤدلج (تهديد إسرائيل وشيطنة أميركا) إلى أن يكون موجها ضد «السنة» بمختلف تنوعاتهم حتى تلك الأقليات والكتل المجتمعية التي لم تتورط في الانخراط مع تنظيم داعش في العراق والشام.
التطور الآخر هو استخدام هذه الميليشيات الشيعية كوقود لحروب خارج الحدود وهو ما يعني تحول هذه الميليشيات إلى مجموعات مقاتلة تذهب لنصرة مواقف إيران في كل المواقع التي يدعون إليها.
وعودا إلى التقرير فقد رصد صعود ظاهرة جديدة سماها وكلاء إيران الجدد في أفغانستان وباكستان الذين يجندون للقتال مع نظام الأسد في سوريا على طريقة المرتزقة لا للمال ولكن لنصرة الآيديولوجيا٬ وعادة ما تتفوق الآيديولوجيا والدعاية الحزبية على تجنيد مقاتلين مرتزقة.
في آخر ثلاث سنوات ازداد حجم تجنيد إيران من الداخل والخارج٬ وبدأت القصة مع فيلق القدس الذي استهدف تجنيد فئات من الشيعة الباكستانيين والأفغان (يقدر عددهم بحسب الورقة 6.4 مليون شيعي٬ أو 15 في المائة من السكان٬ وهو رقم كبير إذا ما أدركنا حجم التماسك والتراتبية في البناء الحزبي للميليشيات الشيعية المقاتلة)٬ والأمر كذلك في باكستان التي تحتوي على أكبر نسبة شيعة بعد إيران يقترب من 40 مليونا وبنسبة تتجاوز 20 في المائة٬ وقد تم استغلال نزعات الطائفية في باكستان وتهديدات طالبان في عز سطوتها لاستقطاب هذه الأقليات وتحويلها إلى كوادر مقاتلة بفضل تبني وتدريب الحرس الثوري٬ ويفترض أن يعود هؤلاء إلى بلدانهم الأصلية مكونين ظاهرة الأفغان الشيعة» على غرار الأفغان العرب إلا أنها أخطر بسبب التنظيم ودقة التجنيد والاستهداف وعدم وجود انشقاقات داخلية بفضل العمل تحت مظلة طهران التي تؤكد التقارير أنها لا تدفع كثيرا لهؤلاء الجنود قدر أنها تستغل ظروفهم الصعبة في بلدانهم الأصلية وحجم التوترات الطائفية التي يمكن القول إنها بلغت أعلى نسبها في البلدان الإسلامية عطفا على التدخل في المستنقع السوري منذ سنوات.
من يتذكر «بيت الأنصار» في قلب بيشاور أيام الحرب على أفغانستان والذي كان مأوى لمقاتلين أجانب كانوا نواة أولية لتنظيم القاعدة٬ لكن أن تتخيل أن تجربة الميليشيات الشيعية مشابهة تماما حتى في التسمية٬ فبيوت الأنصار التي تحوي مقاتلين أفغانا وباكستانيين منتشرة في إيران٬ ويتم الدعاية للجنود بأن سوريا تعاني من تهديد للمراقد والمزارات الشيعية٬ ومن بيوت الأنصار تكون «لواء الفاطميين» المماثل في التجربة لبدايات «القاعدة»٬ وهو ما يؤكد التشابه حد التطابق للتيارات المقاتلة٬ إلا أن تفوق التيارات الشيعية وصمتها وعدم استخدامها للإعلام٬ إلا التحفيزي الداخلي٬ يؤكد أننا مقبلون على خرائب إرهابية من الضفة الأخرى المطابقة لفسطاط بن لادن الذي أخذ في التلاشي.
عشرات الأسماء ذات الطابع العقائدي من «لواء الفاطميين» إلى «الزينبيين» إلى خريجي جامعة المصطفى في قم والتي يصفها فرزين نديم بأنها إحدى أهم المؤسسات الدينية لاستقطاب الكوادر المقاتلة ولها فروع في دول عديدة من بيروت إلى إسلام آباد إلى لندن وصولا إلى إندونيسيا شرقا وأفريقيا تحديدا في غانا البلد الأفريقي الذي يبدو نائيا٬ وليس ببعيد عن هذه الجامعة «المجمع العالمي لأهل البيت».
الإسلام السياسي الشيعي يتوسل السياسة بالسياسة وليس بشعارات دينية فوق مجتمعية ليتحولوا لاحقا إلى نخبة سياسية بقاعدة شعبية تم اكتسابها بشعارات دينية٬ ومن هنا فإن تغاضي المجتمع الدولي لا يعفي الدول العربية والإسلامية من إطلاق جهودها الدبلوماسية والدولية عبر الآليات الشرعية ومنظمات حقوق الإنسان للتحذير من هذه الظاهرة ورصدها٬ لكن الأهم أن تكون هذه الفعاليات ضمن الحرب على الإرهاب وتحديد مفهوم أوسع من المفهوم المتحّيز الذي لا يرى في الإرهاب مشكلة إلا حين يكتسب صفة العولمة والمابعد حداثية ويتصدر شاشات التلفزة بعبثيته وطرائقه الوحشية.. إنها مهمة شاقة وطويلة لكنها مهمة للخروج من نفق المنطقة المظلم الذي استحال من انتفاضات وانكسارات ضد منطق الدولة القطرية إلى خراب عام وفوضى وميليشيات تريد أن تحل مكان الدولة في أكثر من موقع وقد نجحت.