لا يزال عميد السياسة الخارجية الأميركية هنري كيسنجر قادراً على إدهاش العالم بطروحاته الإشكالية للسياسات الدولية، وإن اقترب من أعوامه المائة؛ الأمر الذي يعد ظاهرة غير عادية في المسارات السياسية العالمية.
كيسنجر يعود من جديد الأيام القليلة الماضية عبر موقع Cap x البريطاني الشهير ليحدثنا عن الفوضى العالمية، ولا سيما في الشرق الأوسط ويفتح أذهاننا، وتالياً أعيننا على معضلة كارثية تستحق التوقف والتصرف بأسرع قدر ممكن حتى لا نكون كمن يستجير من الرمضاء بالنار.
منذ أكتوبر (تشرين الأول) 1973، أي منذ أكثر من أربعة عقود والسياسي الأميركي الأشهر تلميذ مترنيخ وبسمارك مطّلع بأوسع قدر وعمق وارتفاع على أحوال الشرق الأوسط المضطرب؛ ولهذا فإن رؤيته الاستشرافية للإقليم لا تأتي من فراغ، وبخاصة حين يجزم بأن المشهد الذي صار إليه منذ نهاية الحرب العالمية الأولى وتقسيم سايكس بيكو لم يعد له وجود، ولا أحد يمتلك تصوراً ما لقادم الأيام، وقد توقفت أربع دول عن العمل كدول ذات سيادة؛ إذ أصبحت سوريا والعراق وليبيا واليمن ساحات معارك للفصائل الساعية لفرض حكمها.
يضعنا كيسنجر أمام قراءة لـ«(داعش)، ذلك الجيش الديني المتطرف آيديولوجياً»، والذي ينعته بـ«العدو العنيد للحضارة الحديثة»، وما جره على المنطقة، وربما العالم من وبال.
يشرح ثعلب السياسة الأميركية مشهد مواجهات «داعش» ويبرز طرحاً جديداً مخالفاً للقاعدة التقليدية «عدو عدوك صديقك»، والإشارة هنا تحديداً إلى إيران التي لعبت ميليشياتها دوراً في مواجهة «داعش» ومجابهته سواء في العراق أو سوريا؛ ذلك أن إيران وإن كانت عدواً ظاهراً لـ«داعش»، إلا أنه لا يمكن اعتبارها صديقاً سواء للأميركيين أو لشعوب المنطقة، وهي لا تداري أو تواري أطماعها وتطلعاتها الإمبراطورية المرتكزة إلى أحقاد فارسية تاريخية.
التساؤل الجوهري الذي يطرحه كيسنجر… من الذي سيرث النفوذ في المناطق التي يطرد منها «داعش»؟ وهل تلك المناطق ستضحى مجال نفوذ تهيمن عليه إيران؟
النتيجة الكارثية التي يحذر منها وزير الخارجية الأميركي ومستشار الأمن القومي الأسبق، هي أنه حال سيطرت ميليشيات الحرس الثوري والمجموعات الشعبية التابعة لإيران على أراضي «داعش» فإن النتيجة ستكون سيطرة إيرانية على حزام من الأراضي يمتد من طهران إلى بيروت، عندها تعلن ولادة الإمبراطورية الإيرانية الراديكالية.
لا تقتصر التحذيرات من إيران على كيسنجر؛ ففي الأول من أغسطس (آب) الحالي، وفي بيان موجز له أمام وزراء إسرائيليين، تحدث رئيس جهاز الاستخبارات الخارجية (الموساد الإسرائيلي) يوسي كوهين، عن «إيران التي تملأ فراغات (داعش)»، مشيراً إلى أن العملية المركزية التي تحدث في الشرق الأوسط في وقتنا هذا هي انتشار إيراني من خلال تمركز قوات إيرانية وأذرع طهران في سوريا ولبنان والعراق واليمن.
والشاهد، أن خبراء السياسة الخارجية الأميركية بدورهم باتوا قلقين من تبعات مواجهة إيران لـ«داعش» بقدر لا يقل عن التصدي والتحدي للتنظيم الدموي الأشهر حديثاً.
خذ إليك ما يقوله إبان بيرمان، خبير العلاقات الخارجية الأميركية، الذي يرسلها صريحة غير مريحة، عندما يحذر مما سماه «فيلق إيران الجهادي»، وإذ تذرعت طهران بطرح القضاء على «داعش»، فقد عملت جاهدة على استجلاب مقاتلين شيعة من أفغانستان واليمن وباكستان إلى جانب طيف من الميليشيات العراقية، والسؤال «كم يبلغ تعداد هذا الفيلق، وهل فاق كثيراً (فيلق القدس)؟».
الجواب نجده عند نادر أسكوبي، مستشار القيادة المركزية للجيش الأميركي سابقاً، والذي يذهب إلى أن عدد المقاتلين الذين حشدتهم إيران حتى الآن قد يصل إلى مائتي ألف مقاتل، بمعنى أنه ربما يتجاوز عدد الجيوش النظامية لبعض الدول…
ما مصير ومستقبل هذا الحشد، وهل سيُترك للفراغ أم سيوظف توظيفاً مدروساً ومخططاً له من قِبل إيران للوصول إلى إمبراطورية التطرف التي يتحدث عنها كيسنجر؟
أقرب الاحتمالات الواردة هي أن طهران التي تسيطر على ذلك الفيلق سيطرة كاملة سوف تستخدمه في حملات خارجية لها، بهدف تحقيق انتصارات جيوسياسية، واستهداف خصومها الإقليميين؛ ما يعني إنهاء وإلغاء أي شكل من أشكال توازنات القوة خليجياً وشرق أوسطياً؛ الأمر الذي يجعلنا نفهم مخاوف تحليلات كيسنجر من جديد.
إيران لم تتنازل عن طموحاتها النووية، ويعزز الاتفاق النووي بين الدول العظمى وطهران هذا الهدف وتلك العدوانية الإيرانية، وهي تتلاعب بمقدرات الدول الكبرى، وخير دليل على صحة هذا الطرح التحذيرات التي أطلقها حسن روحاني منتصف الشهر الحالي، والمتصلة بالانسحاب من الاتفاق النووي «خلال ساعات» حال واصلت العقوبات الأميركية طريقها ضد بلاده.
زعزعة إيران لاستقلال الشرق الأوسط واستقراره تبدت واضحة من خلال مشهدين الأيام الماضية.
الأول: موافقة البرلمان الإيراني على زيادة ميزانية الأمن وبرامج الصواريخ الباليستية بمقدار 260 مليون دولار، ودعم «فليق القدس» ذراع إيران الخارجية بمبلغ مماثل.
الثاني: ما تردد عن مصنع إيراني للصواريخ البعيدة المدى يجري العمل عليه على الأراضي السورية، وتحديداً في مدينة بانياس.
تلعب إيران على متناقضات الصراعات الدولية، ولا سيما ما هو قائم منها بين موسكو وواشنطن وبكين، وفي انتهازية براغماتية صارخة تسعى إلى جعل العالم كله رهينة لها.
السؤال قبل الانصراف… كيف للعالم العربي السني بنوع خاص فهم تحذيرات كيسنجر من جهة، والاستعداد للتعاطي مع إمبراطورية الشر الإيرانية من جهة ثانية؟
يخشى المرء أن تكون المواجهة مع طهران قدراً مقدوراً في زمن منظور.