IMLebanon

ما سبب التخبُّط الإيراني؟

 

دخلت إيران في أسبوع واحد في مواجهة مع العراق الذي كان الانطباع انه تحت وصايتها فانتفضَ ديبلوماسياً ضد استهدافها لأراضيه، ومع باكستان التي ردّت عسكرياً وبشكل فوري وسريع وتوعّدت بالمزيد، فضلاً عن البحر الأحمر الذي دفع حليفتها الصين إلى التنديد باعتراض السفن.

أظهَرت حرب غزة عن ضُعف غير متوقّع لإيران خلافاً للصورة التي حاولت وتحاول ان تعطيها لنفسها، فتنصّلت منذ اللحظة الأولى من عملية «طوفان الأقصى» بما يتعارض مع أهدافها المعلنة إزالة إسرائيل من الوجود، ورفعت شعار «الصبر الاستراتيجي» تجنّباً للردّ على الاستهداف الإسرائيلي المتواصل لقيادات كبرى في الحرس الثوري، ورسمت حدود دعمها لـ«حماس» من خلال قواعد اشتباك تولّاها بشكل أساسي «حزب الله» في لبنان والحوثي في اليمن، وانتقلت من الفعل إلى ردّ الفعل وإحصاء الخسائر، ومن الهجوم إلى الدفاع.

 

فجملة التوعُّد بالرد في الزمان والمكان المناسبين مفهومة لنظام مثل النظام السوري الذي لا حول ولا قوة له، ولكن غير مفهومة لدولة إقليمية مثل إيران تقترب من ان تكون دولة نووية وتتمدّد أقله في أربع دول عربية عبر ميليشيات مسلحة، وهذا دليل وَهن وضعف، فيما دولة مثل باكستان لم تنتظر ساعات ولا تبريرات ولا رفعت شكوى إلى مجلس الأمن ولا استخدمت جملة الرد المَمجوجة، إنما ردّت عسكرياً وتوعدّت بمواجهة مفتوحة، فتراجعت إيران فوراً بعد أن أيقنت بأنها أخطأت التقدير والحساب.

 

فباكستان بهذا المعنى دولة قوية، فيما إيران دولة ضعيفة لا تواجه مباشرة، وإن واجهت بشكل مباشر، فهي لا تجرؤ على الذهاب قدماً في المواجهة. والردّ الباكستاني أظهَر انّ هذه الدولة تحترم نفسها، فلا تعتدي على أحد ولا تقبل بأن يعتدي عليها أحد، كما أظهر انه في هذا العالم الذي غابت عنه القيادات الكبرى والتاريخية ويفتقد إلى الحزم والصرامة والجدية هناك دولة لا تُساوم على سيادتها وكرامتها وعنفوانها ولا تتهاون مع أي مَس بأراضيها ولو كلّفها الدخول في حرب واسعة ومفتوحة، ولو وجد الكثير من الدول على غرار باكستان لكان العالم اليوم أفضل بكثير، ولما تَمدّدت القوى المزعزعة للاستقرار التي استفادت من التراخي الدولي والعربي.

ومن الثابت لغاية اليوم انّ طهران تتجنّب الدخول في مواجهة مباشرة مع إسرائيل على رغم انّ الأخيرة لا تكتفي بمواصلة حربها لإخراج «حماس» من غزة، إنما تتبنّى اغتيال قادة الحرس الثوري الواحد تلو الآخر، كما تتجنّب دخول «حزب الله» في مواجهة مفتوحة مع إسرائيل خشية من خسارة أقدم وأبرز ورقة لديها، وقد خسرت طهران 3 رهانات أساسية في مؤشّر واضح لسوء القراءة والحسابات والتقدير:

 

خسرت رهانها أولاً على عامل الوقت الذي سيجعل تل أبيب تتراجع عن الأهداف التي وضعتها لحربها ضد «حماس» وهي إخراجها من غزة، لأنّ العالم سيتدخّل لوقف الحرب الإسرائيلية، الأمر الذي يَنمّ عن سوء قراءة وتقدير، لأنّ بقاء «حماس» في غزة على قيد الحياة بعد عملية «طوفان الأقصى» يعني موت إسرائيل، ما يعني انها لن توقف حربها ولو وَقف العالم كله ضدها.

 

خسرت رهانها ثانياً على أنّ تحريك أذرعها في لبنان وسوريا والعراق واليمن سيؤدي إلى ردع إسرائيل بالحد الأقصى، والتخفيف عن «حماس» بالحد الأدنى، وقد أظهَرت الوقائع انّ هذا الرهان في غير محله، فلا الحرب على «حماس» توقفت، ولا استعدادات تل أبيب لتوسيع الحرب تراجعت، وهذا دليل إضافي عن سوء تقدير إيراني.

خسرت رهانها ثالثاً على استجرار تدخّل أميركي ودولي لوقف حرب غزة من خلال رفع منسوب التوتر في أكثر من جبهة في الشرق الأوسط من جهة، وتهديد الملاحة في البحر الأحمر من جهة أخرى، ولكن لا التسخين فعلَ فعله، إنما تلقّت الأذرع الإيرانية ضربات موجعة في العراق واليمن، ولا تهديد الملاحة أدى وظيفته، ولا بل على العكس انقلب ضدها.

 

وقد تصرّفت إيران على غرار العماد ميشال عون لدى إعلانه حرب التحرير ضد سوريا، فاعتقد انّ الحرب كفيلة بتحريك المجتمع الدولي لمصلحته، فكانت نتيجة الحرب كارثية على المسيحيين ولبنان. وقد اعتقدت طهران انّ اعتراض السفن الدولية سيجعل المجتمع الدولي يضغط على إسرائيل لوقف حربها في غزة، فحصل العكس لجهة نجاح تل أبيب بجَر واشنطن إلى حلبة الصراع، وإعادة وضع الحوثيين على قائمة الإرهاب واستهدافهم عسكرياً.

 

فاعتراض طهران عن طريق الحوثيين للملاحة في البحر الأحمر خطأ، واستهداف الأراضي العراقية خطأ، واستهداف باكستان خطأ، وإدخال «حزب الله» في الحرب خطأ. ولم تتوقّع إيران ردّات الفعل العراقية ولا الباكستانية ولا الدولية ولا الإسرائيلية ضد «حماس» و«حزب الله».

 

وبالتوازي إذاً مع الضعف الذي ظهرت عليه إيران على أثر عملية «طوفان الأقصى»، فإنها لا تملك جرأة الدخول في حرب مباشرة، ولا أذرعها قادرة ان تنوب عنها والقيام بالمهمة، وقد أظهرت سوء تقدير سياسي كبير، وهذا ما شكّل مفاجأة بدوره بسبب النظرة إليها كونها دولة إقليمية وتُجيد حياكة السياسة على غرار حياكتها للسجاد.

 

ولكن ما الأسباب الكامنة خلف التخبُّط الإيراني؟

 

السبب الرئيسي هو عملية «طوفان الأقصى» التي وضعت إيران أمام معادلة خاسرة-خاسرة، فلم تتقبّل هذه المعادلة وسَعت إلى تغييرها، ولكنها لم تفلح، فبدأت بالتخبُّط والضرب على طريقة الخبط عشواء، وفي كل مرة تضرب فيها تتراجع خطوة إضافية إلى الوراء، علماً انه كان باستطاعتها أن تحدّ من خسائرها لو أحسنت القراءة والتقدير، إلا انها لم تستوعب بعد انّ العودة في غزة ولبنان إلى ما قبل 7 تشرين الأول مستحيلة، وانّ «حماس» لن تبقى عسكرياً في غزة، وانّ «حزب الله» مضطر عاجلاً أم آجلاً إلى تسليم الحدود والتراجع إلى خلفها وإلا ستتوسّع الحرب ضده.

 

ولو أحسنت القراءة لما أذنت أساساً لعملية «طوفان الأقصى»، ولكانت استدركت انّ هذه العملية لا يمكن ان تمر من دون ثمن كبير. وكان بإمكانها، لو استدركت، حصر أضرار هذا الثمن في غزة، لأنّ إدخال «حزب الله» في اليوم التالي على خط المواجهة سيؤدي إلى تدفيعه الثمن، ولو لم يدخل في الحرب وحافظَ على التهدئة لما كان مطروحاً إبعاده عن الحدود، وبالتالي تدفع إيران ثمن منحها الضوء الأخضر لـ«حماس» في عملية 7 تشرين والضوء نفسه لـ«حزب الله» في 8 تشرين.

 

فالخسارة التي تسبّبت بها عملية 7 تشرين وقعت وغير قابلة للتعويض، وأي محاولة للتعويض ستزيد من الخسائر، وكان بإمكان طهران حصر الأضرار والحؤول دون تمدّد الحرب، ولكنها اعتقدت انّ نصف وقفتها إلى جانب «حماس» تحفظ لها ماء الوجه من جهة، وتؤدي من جهة أخرى إلى خلق توازن رعب وردع وإشعال حروب متنقّلة في المنطقة تدفع دول العالم للضغط على إسرائل من أجل ان توقف حربها خشية من حرب إقليمية فيبقى القديم على قدمه في غزة ولبنان والمنطقة. إلا انّ ما حصل هو العكس تماماً، وهو انزلاقها إلى مواجهات أعادت وضع دورها الإقليمي تحت المجهر الدولي.

 

وإذا كانت أحداث 11 أيلول 2001 قد أدّت إلى إنهاء «القاعدة»، فهل تؤدي عملية «طوفان الأقصى» إلى إنهاء الممانعة؟