Site icon IMLebanon

ما هي حصّةُ إيران منَ الحَرب؟ حِفظُ النّفْس؟

 

نتنياهو مستعجل على كل شيء، وإيران بطيئة في كل شيء. وإذا كانت الحروب تستدعي الطريقتين: الاستعجال في حالات، والبطء في حالات أخرى، فإن استعجال نتنياهو لا غير هو القاعدة الوحيدة، وبطء إيران لا غير هو القاعدة الوحيدة، من دون اختلاط بين الطريقتين. حتى أسلوب «حزب لله» المتدرّج صعوداً لكن بتأنٍّ شديد، فيه الكثير من العقلية الإيرانية. كل سلاح نتنياهو وتقنياته القتالية صار واضحاً ومعروفاً: «ما لا تحققه بالتدمير تستطيع تحقيقه بالمزيد من التدمير»، بينما سلاح «الحزب» وتقنياته تظهر على دفعات. وفي حين أن استخدام المسيّرات الانتحارية الميمونة برز أخيراً في «اجتماع لواء غولاني» ثم في منزل نتنياهو شخصياً، وبدَا أنه التفافٌ عبقري على اختلال ميزان القوى، إلّا أنه كان على الصعيد النفسي والمعنوي وحتى العسكري مُجلجِلاً.

هي لحظة مناسِبة لخلط الأوراق، وبعثرَة القواعد المبعثَرة أصلاً بيدَيّ نتنياهو. لكن مَن مِن المكن أن يفعلَها؟

 

ستبذل إيران جهداً كبيراً، في العقل والمنطق، لكي تُقنِع بيئة المقاومة ككلّ، ولا أعني الملتزمين بها، بل كل الآخَرين، بأن ما جرى، حتى الآن، هو شيء يسمّى «وحدة الساحات». هي سلّحت، وهي موّلت، وهي درّبت، وهي صنعت العقيدة القتالية المسماة «وحدة الساحات» وآمن بصدقيتها جميع المعتَبِرين أنها ملجأ حصين، وباتت ترجمة هذا التعبير خريطةً بقيادة إيران، أو أن إيران لها اليد الطولى فيها. وصلَت إلينا الفكرة هكذا، إلّا إذا فهمناها خطأ. لكنْ بالممارسة منذ «طوفان الأقصى» في غزة، تبيّن أن وحدة الساحات معقودة اللواء على «حزب لله» بكل مستوياته، وبعض العراق وبعض اليمن، أقول «بعض» لأن ما نراه ونسمعه هو بعض ما يمكن. «حزب لله» وحيداً دخل المعركة ثم الحرب حاملاً قناعاته المبدئية واستعداداته النفسية ولوجستيّاته المفاجئة وبطولات رجاله. لا أحمّله قطعاً مسؤولية ما جرى ويجرى كما يفهمها المتمسّكون بقشّة «على مين الحق؟ ومَن بدأ». فالتجربة علّمتنا أن إسرائيل تخترع ساعةَ تريد الحجة لقتلنا لا لقتالنا فقط. لكنّ الوصول إلى هذا الدرْك الأسفل من الحرب الوحشية على المدنيين وجرف أكثر من نصف الأرض نهائياً، وتدمير النصف الثاني (في غزة)، ثمّ الانقضاض البربري على لبنان بتقطيع أوصال القرى والمدن والعائلات ذات الغالبية الشيعية ينبغي أن يدفع إيران إلى تغيير خطط المهادنة لتتبنّى موقفاً يعكس مفهوم «وحدة الساحات» حقاً وحقيقةً. «وحدة الساحات» ببساطة هي وحدة الموقف ووحدة التصّرف ووحدة المعركة ووحدة الميدان ووحدة المصير. أي القول والفعل، ولم يُرَ من إيران إلى الآن إلّا وحدة القول. والقول لا شُرطة عليه. التنفيذ والفعل هما الأصل. نُكِبَت غزّة كلها تقريباً أو كادت، ولم تتدخل فعلياً إيران إلّا في.. التصاريح. نُكِبَت مناطق الشيعة في لبنان أو كادت وجلّ ما فعلته إيران مخجلٌ وزهيد و«عرض مفاوضة فرنسا لتطبيق ١٧٠١» كما حاول قاليباف أن يقول. كل هذا يدفع إلى التساؤل: هل اكتفت إيران بردّ ضربة الشهيدين إسماعيل هنية وبعده السيد حسَن نصرلله بتلك الليلة التي وصفت بالجهنمية، وراحت تتهيّأ لضربة موازية من إسرائيل باستعداد سياسي وديبلوماسي وعسكري واجتماعي، ولكنْ بابتعاد تدريجي عن الانخراط الفعلي (ما عدا التهديد والوعيد) وهي الآن في وضعية المتربّص بالعدوّ.. وكفى لله المؤمنين شرّ القتال؟.. وكل ما جرى ويجري بعد ذلك ليس مهماً لها؟

 

لقد استوعبَت إسرائيل الضربة، وحضّرت نفسها للرد على إيران، وللحظةِ الرد الإيراني على الرد. وأعطت نفسها الوقت الكافي الذي يُظهِر أنها تفرّغت إلى العبَث التلمودي بلبنان وغزّة خلاله تحت أنظار العالَم ومن ضمنه إيران «المحايدة». والخطأ يكمن في أن للوقت عِياراً لا يجوز لنا «التمادي» به، لأن العدوّ يستغلّه لارتكاب المحرّمات وما فوق. الخطأ الأول الذي ارتكبته إيران هو تصديقها الوعدَ الأميركي بفرض وقف النار في غزة ولبنان إذا لم تردّ على شطب هنيّة من المعادلة. ومرَّ الوقت «المطلوب» فتبيّن لها الكذب الأميركي. لكنها لم تبادر فوراً بعد ذلك وتضرب للثأر، وكاد العالَم يشعر بأن إيران ابتلعت الإهانة. هذا الوقت القاتل بين أن تردّ إيران على إهانتها أو لا تردّ (شهر كامل تقريباً!) إستغلّه نتنياهو لشطب السيد المُلهَم والمُلهِم حسن نصرلله من المعادلة. هذا كان من المحرّمات التي حذّرت إيران منها مراراً وكان الإسرائيلي يدرك أنها جادة جداً في هذا الأمر. وحتى بعد اغتيال السيد نصرلله بقي جمهوره أسبوعاً كاملاً لا يَسمع من المستوى السياسي والعسكري الإيراني إلّا كلاماً عن «المصالح». تراجعت «المبادئ» وحلّت مكانها «المصالح»، فكأن حضور السيد نصرلله لدى إيران لم يكن من «المصالح» ولا حتى من «المبادئ»، إلى أن جاءت هجمة الصواريخ الإيرانية التي هدّأت نفوس مجتمعات «المحور» التي لم تتصور أن إيران يمكن أن تتأخّر أو تتوانى إلى هذا الحد. كان ينبغي أن يتقدّم الرد الإيراني المذكور، بحدّته وعنفوانه خمسة عشرَ يوماً على الأقل، ما كان سيدعو نتنياهو إلى التفكير مئة مرّة قبل اغتيال نصرلله. كان نصرلله سيبقى في نطاق المحرّمات. «الوقت الإيراني القاتل» بالتفكير والتحليل والبصيرة والتمحيص وتقليب الأمور على جوانبها كافةً، مرةً بالصبر الاستراتيجي ومرةً بحساب المصالح المهدّدة المعلَنة، كان ثغرة عبَرَها نتنياهو لتنفيذ بطولة عجز عنها أسلافه كلهم معتقداً أنها ستمر كما مرّ اغتيال هنية بلا ردّ. والإيراني الآن، في ترقّب وحذر واقع تحت «الصبر الاستراتيجي» والحرص على «المصالح» من جديد والوقت المُستَقطع بينهما سيفهمه نتنياهو، كما فهمه في المرة الأولى، جَبَانة وضعفاً على قاعدة «للهمّ نفسي»، وها هو يحيى السنوار يُقتَل وهو بسلاحه الحربي الفردي يواجه أعداءه!

 

الآن وصلنا مرة جديدة إلى الوقت القاتل. فإذا بقيت إيران في موقع المُدافع عن «المصالح» في أرضها، وتعتمد «الصبر الاستراتيجي»، وفي حالةِ انتظار لضربة نتنياهو، فإنّ هذا وقتٌ ذهبيّ لنتنياهو ليضرب في غزّة ويحرق الناس في الخيم بعد البيوت بعيون عاهرة ويكمل تجريفها، ووقتٌ ذهبي له ليُكمِل على بيئة المقاومة في لبنان بالتدمير الأعمى والإذلال الذي يحدثُ للنازحين بتهديدهم كل يوم بالرحيل إلى مكان جديد.

إن بياناً صادراً عن إيران يقول «إن الجمهورية الإسلامية الإيرانية تحذّر العدو الإسرائيلي من أنها ستدخل مباشرةً في الحرب التي تشنها الدولة العِبرية المغتصِبة على غزة ولبنان وكلّفت آلاف الشهداء والجرحى، إذا لم يجنح العدوّ إلى وقف إطلاق النار. ونعطي إسرائيل وسياسييها وعسكرييها مدة أربع وعشرين ساعة، لإتمام ذلك وندعو العالَم إلى ممارسة نفوذه وقدراته على هذا الصعيد»… بيَان كهذا هو المطلوب، وفوراً!

إن إنذاراً جديّاً وناجزاً مثل هذا سوف يجعل دوَل العالَم المتمادية في إرخاء الحبْل لنتنياهو، تتوقّف عند حدّ، وستنشَط مساعٍ دولية عاجلة لطلَب وقف النار الذي لا يزال نتنياهو يراوغ ويماطلُ ويرقص على تناقضات الموقف منه. إنذار يعيد صياغة «وعد الصواريخ من كل دوَل المحور» إلى الصدارة، ويأتي بعد المسيّرة التي انقضت على منزل نتنياهو مقرِّبةً الخطر إليه شخصياً لتأكيد أنه لا يجوز أن يفلِت كالجاموس الهائج لتحطيم العالَم كله لا إسرائيل ولبنان وغزة فحسب. إنذار سيفرض التفكير بأن حرباً عالمية قيد الاندلاع، وأن الخسائر ستشمل الجميع من دون استثناء بمن فيهم أميركا التي ألحقَت نفسَها وإدارتها بذيل نتنياهو، وحتى الدول التي تعتقد أنها ستحيد نفسها عن تداعياتها غير المتوقَّعة ستكون مجبرة على التحرك!

 

هل هذا خَيَال؟ أبداً إنه مبادرة من إيران إلى تحمّل حصتها من هذا الصراع الدمويّ غير المسبوق والفالت من أي معايير بشرية، بعيداً من مفهوم حِفظِ النّفْس. فلو فكّر جميع «المحور» بحفظ النفس لما تحرّكت بندقية نحو العدو. لا يجوز أن تتفرّج إيران على نتنياهو يقلب أرض غزة ولبنان بصواريخه التي تأكل البشر والحجر أينما توجّه مكتفية بما موّلت وسلّحت ودرّبت في الماضي القريب والبعيد. ولا أدعو إلى جديدٍ يتجاوز «وحدةالساحات»، وإلّا سيصبح تفسير هاتين الكلمتين يعني إيران فقط، فإذا ضُرِبت، تحركت الساحات كلها لحمايتها ونُصرتها، أما إذا ضُرِبَت ساحة أخرى فعليها الاعتماد على نفسها.

نعَم، إيران مُلزَمة بالدفاع عن غزّة وعن لبنان بعدما بلغ الصلف والعنجهية الدموية اليهودية أي مبلغ. لا يكفي أن تتعهّد إيران ببناء البيوت والبنايات التي تهدّمت، وبتعويض الناس عن أرزاقهم المهدورة. إيران مدُعوّة إلى إشعار القاصي والداني أنها لا تترك حلفائها، ونظرية «وحدة الساحات» التي زرعَتها، وفكّر بها وأعَد لها قاسم سليماني، هي فكرة للتحقيق لا للغناء والطرب السّمعي. إيران مطلوبةٌ إلى فرض قوتها النارية المُهابة على نتنياهو لوقف هياجه البربري في هذا التوقيت العالمي المناسب لها، وقد ضاق صدر العالَم، وضاقت عيون الدوَل وضاق ضمير الأمم المتحدة من إسرائيل قتّالة الشعوب بلا وازع من أرض أو سماء، وبالمجان. إيران ينبغي أن تتدخّل لمساعدة حلفائها، فكيف إذا كان صحيحاً القول بأنها هي التي طلبت من «حزب لله» معركة إسناد غزّة؟ سيصبح عندها تدخّلها المباشر ضرورة أخلاقية وإنسانيّة وإسلاميّة.

«وعد الصواريخ» الذي أقنَعَنا به السيد نصرلله فاقتنعنا لشدّة إيماننا بصدقه، هو وعد الصواريخ من قوى المحور كلها دفعة واحدة، لا بالتقسيط المريح، ولا بتحييد النظر عن ذبح المقاومين وأهلهم بالعشرات والمئات يومياً في غزة ولبنان. ورأس المحور إيران لا العراق ولا اليمن ولا المقاوَمة وحدها، بل وَعدُ الإيرانيين بالذات (وبقية أعضاء المحور) بصواريخهم المدمّرة. فإذا كانت إيران قد تراجعت عن خططِها المعروفة، ولجأت إلى سواها، كان ينبغي لها أن تخبر حلفائها في المنطقة قبل أن يصلوا إلى نقطة الاصطدام بالحائط من غياب الأسلحة الضخمة المزلزلة التي تهدّ البنايات (كما وُعدنا) ومن فقدان التعادل في إحداث الخراب غير المألوف في إسرائيل. وإن روايات البطولة والإيثار التي بدأنا نسمعها عن علاقة المجاهدين ببعضهم بعضاً على الحدود تشي بأن إسرائيل ستتراجع حتماً، وآخر تصاريح العدوّ عن الحدود وضراوة المواجهات بأنها «مناورة» لا أكثر، لها سبب واحد هو الخسائر الضخمة في جسَد الجيش الإسرائيلي بأعلى نُخَب عناصره وألويته هناك، وربما تكون تمهيداً للتراجع. إنهم تماماً رجال لله في الميدان جعلوا العدوّ وفِرقَه العسكرية المتفاخَر بها مسخرة المساخر على الحدود اللبنانية، مع أن الطائرات الوحشية فوقهم وفوق لبنان كله لا تُبقي ولا تذَر في أوسع عمليات تدمير منهجية همجية! ويغلبونها ويغلبونها ويغلبونها، وسلاحهم إرادة وتصميم وثبات و«الأرض لنا».

يتعيّن على إيران أن تفكّر جيداً في اليوم التالي إذا انتهت الحرب الدائرة (ولن تنتهي قريباً في تقدير نتنياهو) وظَل موقفها غير منخرط تماماً وغير مفهوم إلّا في حدود النجاة بنفسها، سيتهمها جماعتها لا أعداؤها، ربما، بأنها تركتهم لأقدارهم، لصالح «مصالحها» التي ملأت آذاننا بها في الفترة الراهنة إلى حدّ أنها أنستنا «ماضي القوة والاقتدار والحرص المباشر على المقاومات في العالم العربي» حسب خطابها الرسمي الذي بات «قديماً جدّاً» في حساب الدقائق والساعات الثقيلة علينا، وفي وقتٍ يحتاجها أهل المقاومة لتعطي خطابها المِصداق الحيّ، ويداً بيَد أمام مصير لا بدّ من أن يكون واحداً!