ليس سهلاً على رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي استعادة دور العراق في المنطقة على الرغم من كلّ الجهود التي يبذلها في هذا المجال. يركّز في جهوده على محاربة «داعش» من جهة، وعلى حصر السلاح بالقوى الشرعية العراقيّة، أي الجيش العراقي والقوات الأمنية التابعة للدولة العراقيّة. تبدو المعركة التي يخوضها العراق شبيهة إلى حدّ كبير بالمعركة التي يخوضها لبنان. في شكل عام، يبدو وضع العراق أفضل من وضع لبنان، وإن نسبياً. يؤكّد ذلك عجز مؤسسات الدولة اللبنانيّة عن اتخاذ موقف واضح من البيان السعودي – الفرنسي الأخير الذي دعا إلى أن يكون السلاح حكراً على الجيش اللبناني بدل أن تكون هناك دولة داخل الدولة اللبنانية، هي دولة «حزب الله».
في المقابل، يوجد في العراق من يدعو إلى موقف واضح من «الحشد الشعبي»، وهو مجموعة ميليشيات مذهبيّة معظمها بإمرة إيران. يحدث ذلك عبر رفض أن يكون في البلد جيش موازٍ للجيش العراقي. هذا ما عبّر عنه، على نحو مباشر، مقتدى الصدر الذي بات يمتلك أكبر كتلة برلمانية في ضوء الانتخابات الأخيرة. وهذا ما عبّر عنه أيضاً الكاظمي نفسه، وإن بطريقة غير مباشرة، خصوصاً في ضوء محاولات الاغتيال التي تعرّض لها أخيراً عندما استهدف منزله بواسطة طائرات مسيّرة. يعرف الكاظمي قبل غيره من أين جاءت تلك الطائرات المسيّرة، ويعرف خصوصاً أنّ المطلوب إلغاء نتائج الانتخابات الأخيرة التي كشفت رفضاً شعبياً لميليشيات إيران في العراق. وهو اكتفى بالقول عن مطلقي الطائرات المسيّرة: «نعرفهم جيّداً».
ستزداد التحديات التي تواجه الحكومة العراقيّة مع مرور الأيّام. سيكون الإعلان عن «انتهاء المهمّات القتاليّة» للقوات الأميركية في العراق فرصة كي تجد العناصر الموالية لإيران مناسبة لإطلاق شعار «المقاومة» والتمسك به. ستفعل ذلك بحجة أنّه لن يحصل انسحاب عسكري كامل من العراق، وأنّ القوات الأميركية ستحتفظ بمهمات في العراق، من بينها «تدريب» الجيش العراقي في مجال استخدام الأسلحة التي يمتلكها. الأهمّ من ذلك كلّه، ترفض إيران الاعتراف بأنّ الحكومة العراقيّة تمتلك شرعيّة التفاوض باسم العراق. بالتالي، لا قيمة للاتفاق الذي توصّل إليه مصطفى الكاظمي مع الرئيس جو بايدن في أثناء زيارته لواشنطن الصيف الماضي.
تعتبر إيران أنّ كل شيء مباح لها لتبرير بقاء «الحشد الشعبي» والمحافظة على دوره، وذلك كي يكون العراق نسخة طبق الأصل عن إيران. أي أن يلعب «الحشد الشعبي» الدور الذي يلعبه «الحرس الثوري» في «الجمهوريّة الإسلاميّة». ترفض أخذ العلم بأنّ هناك شعباً عراقياً يحقّ له تقرير مصيره. ثمّة أمر واقع تعتبر إيران أنّه أبدي، وأنّها استطاعت فرضه في العراق، وذلك بعدما سلمتها ايّاه الولايات المتحدة على صحن من فضّة في العام 2003.
بين 2003 و2021، تغيّر الكثير. تغيّر العراق، خصوصاً بعدما تبيّن أن النظام الذي فرضته طهران، بموافقة أميركيّة غير قابل للحياة. في نهاية المطاف، يريد العراقيون ممارسة ثقافة الحياة بكلّ ما فيها من جمال. يرفضون، في معظمهم طبعاً، أن يكونوا مثل الإيرانيين الذين خنقهم نظام ليس لديه ما يقدّمه لشعبه باستثناء البؤس والتخلّف.
في الوقت الذي تتفاوض فيه إيران مع أميركا في فيينا في شأن ملفّها النووي، يزداد تمسّك «الجمهوريّة الإسلاميّة» بالورقة العراقيّة. هذا ليس وقت سحب هذه الورقة من طهران. من هذا المنطلق، ستزداد التحديات التي تواجه مصطفى الكاظمي الذي عليه القتال على جبهتي «داعش» و»الحشد الشعبي». ذهب رئيس الوزراء العراقي إلى الشمال الكردي ثم انتقل إلى البصرة في الجنوب ليؤكّد أن الدولة العراقيّة ما زالت موجودة، وأنّها قادرة على الإمساك بالأمن. أكثر من ذلك، يسعى إلى إثبات أنّ هناك أملاً في مستقبل أفضل للعراق الذي يستطيع لعب دور متوازن على الصعيد الإقليمي.
ليس صدفة استغلال «داعش» الجدل السياسي في شأن نتائج الانتخابات، وهو جدل تثيره أحزاب إيران وميليشياتها، لتحقيق خروقات في المحافظات الشمالية على حدود إقليم كردستان. وليس صدفة أن تستغل الميليشيات التابعة لإيران هذا الوضع للتحرّك في جنوب العراق، في البصرة تحديداً.
يظهر أن العراق مقبل على مزيد من التوترات الداخليّة التي سيُستخدم فيها شعار «المقاومة» مجدداً. ليس مستبعداً أن تشهد المرحلة المقبلة حملات من أجل تبرير احتفاظ «الحشد الشعبي» بسلاحه. ستلجأ إيران إلى ممارسات شبيهة بتلك التي طبقتها في لبنان حيث وجد «حزب الله» مبرراً، بعد انسحاب إسرائيل من جنوب لبنان في أيّار من العام 2000، كي يحتفظ بسلاحه. قضى هذا السلاح شيئاً فشيئاً، تحت شعار «المقاومة»، على الدولة اللبنانيّة ومؤسساتها. صارت إيران تتحكّم بانتخابات رئاسة الجمهوريّة في لبنان. إمّا أن يفوز مرشّحها، وإما لا رئيس للجمهوريّة في لبنان. صارت إيران، التي فرضت قانوناً انتخابيّاً على مقاس «حزب الله» من يُقرّر هل تتشكّل حكومة في لبنان أم لا؟ هل يحقّ لهذه الحكومة الموجودة، بناء على رغبة إيرانيّة، أن تجتمع أم لا؟
تحت شعار «المقاومة» التي يجب أن تستمر في مواجهة الوجود الأميركي في العراق، حتّى لو كان هذا الوجود مقتصراً على «تدريب» الجيش العراقي الذي بات يستخدم أسلحة أميركيّة، يصبح سلاح «الحشد» مبرراً. يصبح هذا السلاح ضرورة. في الواقع، هذا السلاح ضرورة إيرانيّة في العراق، مثلما أنّ سلاح «حزب الله» ضرورة إيرانيّة في لبنان.
استطاعت إيران أن تجعل الوضع معلّقاً في العراق. المجلس النيابي الجديد موجود. ليس معروفاً هل سيجتمع، كما ليس معروفاً هل ستتشكّل حكومة جديدة يوماً برئاسة مصطفى الكاظمي… أم غيره؟ كلّ ما هو معروف أنّ العراق ما زال يقاوم. يقاوم في الشمال، كما يقاوم في الجنوب. أمّا لبنان، فيبدو، إلى إشعار آخر، أنّه استسلم. قضى عليه شعار «المقاومة». هل يقضي هذا الشعار على العراق أيضاً، على الرغم من الجهود التي لا يزال يبذلها رئيس الحكومة الحاليّة الذي يسعى في كلّ يوم إلى إثبات أن الأمل بمستقبل أفضل لم يُفقد بعد…