IMLebanon

العراق… بين تدمير الدولة والحفاظ على كيانها

يقول المفكر البريطاني وليم هملتون: «إنّ الخبراء الإستراتيجيين في وزارة الدفاع الأميركية، وفي مجلس الأمن القومي الأميركي، ينظرون إلى العراق بانّه قلب المنطقة العربية الآسيوية، وإنّ السيطرة عليه تعني السيطرة على البترول». وقد أكّد هذا، وزير خارجية روسيا سيرغي لافروف الذي ربط «عدم الاستقرار في منطقة الشرق الأوسط بالممارسة الخاطئة للهندسة الجيوسياسية للغرب والتدخل في شؤون الدول الداخلية».

يؤثر الموقع الجغرافي تأثيراً مباشراً في السياسة الخارجية لأيّ دولة، وقد يكون عاملاً من عوامل القوة أو ضعفها، ومن الممكن أن يجعل الدولة محلّ أطماع الدول الأخرى.

فلقد إحتلّ الموقع الجغرافي للعراق منذ القدم موقعاً استراتيجياً مهماً، دفع الدول للسيطرة عليه. فمنذ أكثر من 22 قرناً بدأت حركة الإستعمار على العراق، عندما احتلت جيوش الإسكندر المقدوني أراضي العراق، وهي في طريقها إلى الهند، ولم تتوقف هذه الحركة الإستعمارية إلى يومنا هذا.

يشهد العراق اليوم، حرباً تفتيتية لكيانه بسبب موقعه، وغناه بموارده النفطية، وقد تجلّى ذلك:

– في إصرار الإدارة الأميركية، منذ حرب الخليج الأولى، السيطرة على العراق، بهدف ضرب المنطقة، والسيطرة عليها، من خلال تقسيمها وتفتيت هويّتها.

فسقوط العراق تحت سيطرتها، سوف يؤدّي إلى قطع الاتصال بين المشرق العربي وبين بقية العام الإسلامي، خصوصاً إيران وتركيا من خلال القضاء على أحلامهما في المنطقة، وتأمين الحماية لأمن إسرائيل، إضافةً إلى قطع الطريق أمام أيّ طموح روسي في المنطقة.

– في أهميته بالنسبة إلى روسيا. لأنّ العراق يُعتبر معبرها الوحيد إلى البحار.

إذ عن طريقه يمكن للروس الاتصال بالخليج العربي والمحيط الهندي، وتأمين حلقة المواصلات الجوّية بين أوروبا وآسيا. لذلك سارع الروسي إلى دعم النظام السوري في حربه الحالية، كي لا يخسر آخر معاقله في المنطقة من جهة، ومن جهة ثانية عمد إلى إقامة علاقة قوية مع كلّ من إيران وتركيا ليطوّق الولايات المتحدة وحلفاءها في العراق. فتحت ضغط الحصار والتطويق، تسقط المنطقة في يد نفوذها.

من الطبيعي أن تعمد روسيا الإتحادية وأميركا لإفشال أية مفاوضات بينهما حول الحرب الدائرة في المنطقة، طالما أنّ كفّة الميزان لم تمل إلى أيٍّ منهما.

هذا ما عبّر عنه وزير الخارجية الأميركية جون كيري في 5 أيلول 2016: «بأنّ المحادثات بين موسكو وواشنطن حول الهدنة في سوريا باءت بالفشل». ففشل المفاوضات بات مطلوباً، حتى تتمكّن الدول من تحقيق تقدّم ميداني على الأرض، ما يسمح لها فرض شروطها في التفاوض.

إنّ منطقة الشرق الأوسط ستشهد حروباً ضارية في أكثر من منطقة. فمنذ سقوط نظام صدام حسين عام 2003، والعراق لم يعرف استقراراً، ولم يتمتّع بسلطة سيادية لإعادة بناء كيانه. فالحشد الشعبي الشيعي المدعوم من إيران، يسعى إلى إقامة منطقته في العراق.

والدولة الإسلامية (داعش) المموّلة من أنظمة إستخبارية خصوصاً إسرائيلية تعمل على رسم حدودها في العراق وسوريا. إضافة إلى السنّة الذين يعملون جاهدين للمحافظة على هوية العراق السنّية. والقوات الكردية التي وجدت من صراعات المنطقة سبباً لبناء دولتها، وتضمّ إليها أكراد تركيا وسوريا.

أمام المصالح المتضاربة للّاعبين الإقليميين والدوليين، دخل العراق في دوامة عنفية، يبدو أنّ الخروج منها ليس بالأمر السهل. فاستبيح حدوده، من قبل دول الجوار.

فالتدخّل التركي العسكري في شمال العراق في منطقة بعشيقة شمال الموصل في سنة 2015، كان تحت ذريعة حماية الحدود التركية من هجومات داعش. وقد عبّر مراراً الرئيس التركي رجب الطيب أردوغان بأنّ «القوات موجودة منذ زمن، ولن يقبل سحبها من العراق».

لذلك، فإنّ العراق اليوم أمام حرب وجودية حقيقية، حيث يعاني من أزمة إعادة بناء الهوية، بعد سياسات التفتيت التي تهدّد كيانه. إنّ العودة إلى العراق – صدام حسين، أو عراق العروبة في حربه ضدّ إسرائيل، خصوصاً بروز دوره في حرب 1973 كمساندة أساسية للقوات السورية، لم يعد وارداً في حسابات الدول.

هذه الأحداث تؤكّد أنّ المخاض لم يزل في مراحله الأولى، وأنّ المنطقة ستشهد مساراً من النزاعات الوجودية للدول، التي ستلجأ فيها الى المزيد من العنف للدفاع عن كيانها. وأنّ العراق كان هو البداية، وهو النموذج الجديد لسائر الدول العربية، طالما أنّ السياسة التفتيتية ما زالت مدعومة من قبل صانعيها. وطالما أنّ الدول الكبرى لا تنظر إلى المنطقة إلّا كأماكن للنفوذ، بغض النظر عن كياناتها وهوياتها.