منذ سنوات، وقبل صدور «تقرير تشيلكوت»، انكشف السر في أن الاجتياح الأميركي – البريطاني للعراق في 2003 استند إلى تقارير مخابراتية ملفّقة تزعم وجود أسلحة الدمار الشامل في العراق.
صدام حسين صدّق الكذبة، فتصرف على أساس أن العراق قوة عظمى لا تُهزم، مثلما فعل بعد اجتياح الكويت، عندما صدّق مقولة أن الجيش العراقي يأتي في المرتبة الرابعة بين أقوى جيوش العالم. وتصرف في المرحلة التي سبقت حرب تحرير الكويت على هذا الأساس، ظنّا منه أن الحرب غير ممكنة، وإذا وقعت فستكون «فيتنام» جديدة.
في تلك المرحلة، احتل صدام حسين مرتبة العدو الأمثل لمعظم الأطراف النافذة في المنطقة والعالم. فبعد الحرب مع إيران طيلة ثماني سنوات واجتياح الكويت الذي شكل تهديدا مباشرا لدول الخليج، وفي مقدمها السعودية، فضلا عن العلاقات المأزومة بشكل دائم بين نظامَي البعث في العراق وسوريا، لم يعد لصدام حسين صديق. والدولة الكبرى التي كان يمكن أن تردع، الاتحاد السوفياتي تحديدا، تفككت وتعطل دورها وتأثيرها.
بعد اعتداءات 11 أيلول، شنّت الولايات المتحدة حربا بغطاء دولي للقضاء على القاعدة وطالبان في أفغانستان. انتهت الحرب خلال أيام، وجاء توظيف فائض القوة العسكرية في ظل دعم شعبي أميركي، للانقضاض على الإرهاب والأنظمة التي تمتلك أسلحة الدمار الشامل، وهي معروفة، أبرزها كوريا الشمالية. لكن في العراق الحرب ممكنة عسكريا، خلافا لكوريا الشمالية أو غيرها.
الرئيس الأميركي جورج دبليو بوش لم يكن ملماً بالواقع العراقي بالغ التعقيد، وقبل 11 أيلول لم يكن الشرق الأوسط في صدارة اهتماماته. أما مستشارو بوش، من متشددي Neocons، فكانوا ملمّين بالوضع العراقي، ومنهم كثر من مؤيدي اليمين الإسرائيلي. لم يترك صدام حسين ذريعة إلا وأعطاها لواشنطن ولغيرها، ما جعله هدفا «مشروعا»، وهو على رأس «جمهورية الخوف» التي استفاض في وصفها الكاتب العراقي المقيم في أميركا عدنان مكية وأصبح له مكانة في الأوساط الأكاديمية وفي الإدارة الأميركية.
قرار اجتياح العراق أميركي، وطوني بلير بدا متحمسا للعمل العسكري وتعهّد بمساندة بوش قبل أشهر من الغزو. لكن بريطانيا كانت حذرة وجيشها منتشر في المناطق الجنوبية، وهي أقل توترا نسبيا من مناطق الوسط والشمال، ومستشارو بلير لم يكن لديهم أجندات رديفة وطموحات بتغيير دول المنطقة ومجتمعاتها.
استنتاجات تقرير تشيلكوت قد تكون مفيدة لمن يهمه الأمر داخل بريطانيا وخارجها:
ـ أولا، لم يعد باستطاعة رئيس حكومة بريطانيا، لأي حزب انتمى، أن يأخذ البلاد إلى حروب الآخرين حتى ولو كان محرّكها الحليف الأميركي، خصوصا إذا لم يكن الأمن القومي البريطاني مهددا.
ـ ثانيا، الدول الكبرى يحكمها بشر غير معصومين، يتخذون قرارات قد تكون خاطئة ومكلفة. فالقرار الحاسم يأخذه مسؤول، لا مؤسسة أو مجموعة، ويتأثر بأمور يختلط فيها الشخصي بالسياسي والمبدئي.
الفارق كبير، مثلا، بين جورج بوش الأب والإبن في الخلفية وفي السياسة التي اعتمدتها واشنطن في الشرق الأوسط.
استنتاج آخر يرتبط بالقدرة على المحاسبة في الأنظمة الديموقراطية، ولو بعد حين. هذا طبعا لا يحصل في أنظمة الحكم العربية، ومنها نظام صدام حسين الذي خاض حربين متتاليتين بلا جدوى. استنتاج أخير يخص الرئيس الأميركي باراك أوباما الذي اتّبع سياسة مغايرة لسياسة سلفه، فلم يُقحِم بلاده وجيشها في مغامرات عسكرية مبنيّة على أوهام وادعاءات، مثلما فعل بوش وأركان إدارته. إزاحة صدام حسين شيء وإعادة بناء دولة ديموقراطية مستقرة في العراق شيء آخر، مثلما هي الآن الحالة السورية.
حرب العراق مفتعلة، ولا شبيه لها بين الحروب المعاصرة. شرعية الحرب وقانونيتها باطلتان لأن الهدف المعلن للحرب أُسُسه ملفّقة. كما جاء التركيز محصورا بالجانب العسكري ولم يكن ثمة خطة واضحة لمرحلة ما بعد العمليات العسكرية. ومع حلّ الجيش العراقي والتركيز المفرط على القدرات العسكرية، بلغ التهور الأميركي أقصى مداه. وسرعان ما تحول الكلام باتجاه إقامة شرق أوسط جديد، بينما العراق، نواة الطموح المفترَض، في حرب مدمرة.
قد يكون لحرب العراق «شرعية» من وجهة نظر أعداء النظام الحاكم في الداخل والخارج حين سقوطه، إلا أن الحرب تواصلت وبثمن باهظ، ما أدى إلى نسف أسس الدولة ودخول البلاد في دوامة عنف لم تنتهِ إلى اليوم.
تقرير تشيلكوت لن يغير الكثير بالنسبة إلى طوني بلير الذي ترك الحكم ولن يعود. ولقد أطلّ في السنوات الأخيرة داعية سلام لإنهاء النزاع العربي – الإسرائيلي على رأس «الرباعية». أما تداعيات حرب العراق فلن تنتهي فصولا ونكبات حتى وإن تجاوز عدد كلمات التقرير عدد سكان العراق.