ما بين بيروت وبغداد مخاضٌ مشترك وتقاطعُ مَأساةٍ ومصير
في تقدير كثيرين أن محاولة اغتيال رئيس الوزراء العراقي مصطفى الكاظمي، بشكلها الفجّ والوقح، ليست مستغربة، كما أنها ليست مفصولةً عن تطورات المشهد العراقي، خصوصاً فصله الأخير المتمثّل بالانتخابات النيابية ونتائجها، وما حملته من دلائل ومؤشرات عن رفض الشارع العراقي للهيمنة الإيرانيّة المتمادية على بلاد الرافدين، وإجرام ميليشياتها، وتأكيدُ هذا الشارع على التمسك بدولته وتاريخه وحضارته وعروبته.
في التقدير عينه، إن محاولة الإغتيال هذه رسالةٌ إلى الداخل العراقي، وربما إلى ساحات أخرى لبنان ليس بمنأى عنها. ذلك أن قواسم مشتركة تجمع ما بين بيروت وبغداد، فالمشهدان اللبناني والعراقي تجمعهما تقاطعات وحيثيات متشابهة كثيراً، خصوصاً لناحية الفساد السياسي الكبير، واعتبار كِلا البلدين، إلى جانب سوريا واليمن، تحت الهيمنة المباشرة لإيران وميليشياتها، وقد شهدا أيضاً على مدى سنتين احتجاجات شعبية واسعة ضد تحالف الفساد والهيمنة. وعلى مدى سنتين جرى فهم ما يجري في الساحتين بأنه إعلان انتهاء مرحلة، والتبشير بولادة أخرى جديدة، تختلف عن سابقاتها، بعدما عانى البلدان من التدخل الإيراني المباشر تحت عناوين طائفية ومذهبية وعلى حساب السيادة الوطنية، وحقوق المواطنين، واستقامة العملية السياسية.
الارتياب الإيراني مبرّر!
أيضاً وأيضاً، وفق هذا التقدير، فإن طهران التي ترصد منذ سنوات تقهقر المدّ الإيراني، بما يعنيه من فشل استراتيجيا تصدير الفوضى والاقتتال الداخلي، لطالما ارتابت من زلزال الحَراكات الشعبية، لأنها تعتبر أن انهيار نموذجي العراق ولبنان، وهما درّة تاج تجربة حرسها الثوري، يعني انسحاب هذا التراجع حكماً إلى ساحات سوريا واليمن وغزة أيضاً، وما يعني تالياً في نهاية المطاف تضعضع النفوذ والتأثير الإيراني في منطقة الشرق الأوسط. وبصرف النظر عن نتائج الانتخابات العراقية، وما يمكن أن تحمله نتائج الانتخابات في لبنان (إن حصلت) فإنه من المبكر جداً تبني هذه الخلاصات أو التسليم بنتائجها لأسباب عديدة، لكن في الوقت عينه إن الموقف الايراني من الانتفاضات الشعبية في لبنان والعراق اتسمَ بالريبة وحشره بين حدّي الاتهام بالعمالة للغرب أو وصف جموعه بمثيري الشغب، مع أن عناوينه ركزت على قضايا حياتية واجتماعية، ومسائل الشفافية والإصلاح ومحاربة الفساد! أكثر من ذلك، بُعيد انطلاق الحراك الشعبي في 2019، اتهم مرشد الثورة الإيرانية علي خامنئي ثورة شباب لبنان والعراق بعيد انطلاقتها بأنها «أعمال شغب تسببت بها أميركا والكيان الصهيوني ودول غربية بأموال دول رجعية». على أن أخطر ما في تقاطعات المشهدين اللبناني والعراقي على مدى سنتين، وأشدها إثارة للعجب، هو الموقف الغربي المكتفي بالتفرج على الغرق في مستنقع الفوضى، والمواقف الرماديّة من ذلك!
يبدو الشعب العراقي كمن فاض غيظاً من نقص الخدمات العامة، وضعف الأداء الاقتصادي وانتشار الفساد في إدارات الدولة، وسيطرة المليشيات على الأجهزة الأمنية وتورطها بجرائم تطهير على أساس طائفي ومذهبي، وهو الدولة النفطية، والغنية بشعبها ومواردها وتاريخها وحضارتها. ما سبق يقود إلى حقيقة أن ذهنية الأحزاب الدينية والمليشيات المسلحة لا تتقبل منطق الدولة، فضلاً عن الإصلاح السياسي، بل ولا تسمح به إلا وفق أجندتها، أي أنها تحمل ذات عقلية الطبقات الحاكمة التقليدية التي ترى في الدولة الوطنية مجرد مزرعة لتقاسم الحصص، وليس وطناً يفترضُ انتماء ومواطنة وإدارة شفافة وحكماً رشيداً وتساو في الحقوق والواجبات.
مؤسف لكنه ضروري القول بأن المليشيات الطائفية المسيطرة في أكثر من بلد عربي، أخضعت المنظومات الحاكمة، والفاسدة طبعاً، وفق معادلة لممثلي إيران، الهيمنة على القرار السيادي والخارجي والاستراتيجي، والسيطرة على المرافئ والحدود، وتغطية إضعاف وتهميش الدولة الوطنية، في مقابل، منح القوى السياسية الأخرى «مكرمة» البقاء في السلطة والغرق في الفساد، ومن ثم تقاسم الحصص والمكاسب ونهب المال العام.
معادلة شمعون العراقية
يروي الرواة أنه في العام 1976، ورداً على سؤال حول مستقبل الأوضاع في لبنان الآخذة بالتدهور آنذاك، أجاب الرئيس كميل شمعون سائله: «خللي عينك على العراق»، وهو – أي شمعون – كان حرصَ على التقرّب من العراق خلال فترة الإنقسام الكبير في العلاقات العربية – العربية، بين المحور الناصري والاشتراكي. كلام شمعون عَنى الربط بين الحالتين لما يمثله النموذج اللبناني والدور العراقي في المنطقة، وأن النيلَ من بلاد الرافدين سينسحب حكماً على بلاد الأرز، ولذلك تمسك بمعادلة «عراق قوي، لبنان مستقر»، وهي المعادلة التي فهمها كثيرون، خصوصاً بعد كارثة الاحتلال عام 2003، وما تلاها من ويلات وتدمير للدولة والمجتمع.
نعم أوجه الشبه كثيرة، والمصاعب تكاد تكون واحدة، والانسدادات متشابهة، والخيارات ضيّقة، حيث لا وجود لدولة مركزيّة قوية، بل لقوى سياسيّة متغوّلة على الدولة وأجهزتها ومؤسساتها وسلطاتها، لذلك إن التمعن في التجربتين، العراقية واللبنانية، يثبت أن السلاح والاستقواء والهيمنة حليف موضوعي للفساد والزبائنيّة، لكنه يكشف أيضاً حتمية فشل هذا التحالف لأنه يناقض بديهيات المواطنة ومنطق الدولة وأبجديات الحريات والتنمية والمشاركة، وكلّه يوصل إلى نتيجة واحدة، يعرفها الجميع، لكن لا يريدون موجهتها. ولله الأمر من قبل ومن بعد.