Site icon IMLebanon

أزمة العراق تجاوزت مقتدى الصدر.. وغيره

من الداعشي في العراق؟ هل مقتدى الصدر بعيد عن «داعش» أم لا؟ هل يمكن القول إن حكومة العراق تختلف في شيء عن «داعش» باستثناء قيامها بعمليات التطهير العرقي، من منطلق مذهبي، بطريقة لبقة تختلف عن العهر الذي يمارسه «داعش» من ناحية الأسلوب؟

يبدو «داعش»، الذي تسعى حكومة الدكتور حيدر العبادي إلى التخلص منه، الحليف الأوّل لهذه الحكومة التي تقبل أن يكون «الحشد الشعبي» جزءاً لا يتجزّأ من تركيبة السلطة العراقية، مهما تظاهرت بعكس ذلك. قامت هذه السلطة على أساس مذهبي. ليس في استطاعة ميليشيا مذهبية مثل تلك التي يمثّلها مقتدى الصدر، أو غيره، إصلاح وضع أعوج من أساسه.

هناك وضع عراقي مضحك ومحزن في آن، بات فيه مقتدى الصدر شخصاً إصلاحياً. الأكيد أن الصدر أفضل من «حزب الدعوة» الذي ليس سوى نسخة شيعية عن حركة الإخوان المسلمين بكل ما تمثّله من تخلف على كل صعيد، لكنّ الأكيد أيضاً إن الإصلاح في العراق لا يمكن أن يقوم به شخص لا يعرف شيئاً عن كلّ ما هو حضاري في هذا العالم. 

أكثر من ذلك، مثل هذا الشخص لا يدرك أن لا مكان لرجال الدين وعمائمهم في أي نظام يتمتّع بحدّ أدنى من الشروط التي تسمح للمواطن العراقي بأن تكون له الحقوق التي يتمتع بها أي مواطن آخر في البلد، أكان شيعياً أو سنّياً أو مسيحياً، عربياً أو كردياً أو تركمانياً أو إيزيديا أو من أصول فارسية. 

كم هو بائس بلد مثل العراق كان مؤهّلاً لأن يكون منارة للمنطقة. يرمز إلى هذا البؤس تحوّل مقتدى الصدر إلى لعب دور المصلح وقائد عملية الإصلاح. يحصل ذلك في وقت بات معروفاً أكثر من اللزوم، كيف وصل العراق الى ما وصل اليه.

لا يمكن في أيّ حال تبرئة نظام صدّام حسين وكلّ ما سبقه من أنظمة من بلوغ الحالة العراقية ما بلغته. لم يشهد العراق يوماً أبيض منذ الرابع عشر من تمّوز/يوليو 1958، عندما حصل انقلاب عسكري على الأسرة الهاشمية. لا يزال الدم العراقي يسيل منذ ذلك اليوم المشؤوم، ما زال العراق ينزف. ما زال العراقيون يدفعون ثمن دمّ فيصل الثاني وأفراد تلك العائلة المسالمة التي لم تقدّم سوى الخير للعراق والعراقيين والتي كانت تشكّل أفضل غطاء لحياة سياسية طبيعية في هذا البلد الغني بتنوّعه الطائفي والمذهبي والقومي وبثرواته الطبيعية وبالمياه والإنسان والأراضي الزراعية.

كان يمكن للعراق التطوّر وأن يصبح بالفعل دولة ديموقراطية حديثة، لولا ذلك الانقلاب العسكري الذي أوصله الى ما وصل إليه الآن وحوّله نموذجاً للشرق الأوسط الحديث. هذا الشرق الأوسط الحديث الذي يتميّز بخروج الغرائز المذهبية إلى العلن وتفتيت للدول ومجتمعاتها والسعي إلى إعادة رسم حدود الكيانات السياسية.

كانت المفارقة أن إدارة جورج بوش الابن أرادت تحويل العراق الى نموذج لما يمكن ان تكون عليه دول الشرق الاوسط، أي دول تتمتّع بمؤسسات ديموقراطية. ما حصل على ارض الواقع تناقض كلّياً مع ما كانت تصبو اليه تلك الادارة الاميركية التي لم تكن تعرف شيئاً لا عن العراق ولا عن طبيعة التوازنات الاقليمية.

ما حصل، كان تقديم العراق على صحن من فضّة الى إيران التي وافقت على المشاركة في الحرب الأميركية في العام 2003، لقاء إدراج عبارة «الأكثرية الشيعية في العراق» في البيان النهائي الذي صدر عن مؤتمر لندن للمعارضة. انعقد ذلك المؤتمر برعاية اميركية – ايرانية في كانون الاوّل/ديسمبر 2002.

لم يتغيّر شيء في العراق منذ تشكيل مجلس الحكم الانتقالي بُعَيْدَ الاحتلال الأميركي. كان الهدف من تشكيل مجلس الحكم هذا الانتقام من السنّة العرب. الاكيد ان مقتدى الصدر ليس الشخص المؤهل لاعادة الوضع العراقي الى وضع طبيعي. فات اوان ذلك، لا لشيء سوى لان الاضرار التي لحقت بالعراق والمجتمع العراقي منذ العام 2003، تاريخ وصول الحكّام الحاليين الى السلطة على دبابة اميركية، هي من النوع الذي لا يمكن إصلاحه بأي شكل.

ستكون هناك حملات عسكرية لإخراج «داعش» من بعض المناطق العراقية وصولاً الى الموصل. لن تقدّم هذه الحملات ولن تؤخّر، نظراً الى ان الفكر الداعشي لا يقتصر على «داعش» وليس محصوراً به. هذا الفكر يجمع بين كلّ الميليشيات المذهبية أكانت سنّية او شيعية. المؤسف في الامر أن من يواجه «داعش» في العراق، او يتظاهر بمواجهته، دواعش شيعية أمعنت في تخريب ما بقي من البلد بقرار إيراني واضح يستهدف الحؤول دون قيام قيامة للبلد في يوم من الأيّام.

ربّما كان مقتدى الصدر يمتلك كلّ النيات الحسنة، ربما اكتشف أخيراً أن إيران تعارض قيام أي مؤسسات عراقية ليست تحت سطوة هذه الميليشيات المذهبية أو تلك. ربّما أدرك معنى أن يصل أحدهم الى السلطة على دبابة اميركية، ثمّ يعلن أنّه يقاتل «الاحتلال» الأميركي كونه يفضّل الاحتلال الإيراني المباشر. كلّ هذا وارد. لكنّ بناء دولة حديثة لا يمرّ بأشخاص من هذا النوع لا يعرفون شيئاً عن كيفية بناء الدول الحديثة بعيداً عن الطائفية والمذهبية ورجال الدين. لا يمكن قيام دولة حديثة على أيّ بقعة من الأرض في ظلّ رجال الدين. لم تزدهر أوروبا وتخرج من تخلّفها إلّا بعد التخلص من سلطة رجال الدين الذين وُضعوا في مكانهم الحقيقي واخذوا الحجم الطبيعي الذي يليق بهم ويستأهلونه…

ليس الموضوع حالياً موضوع إصلاحات وحكومة جديدة برئاسة العبادي تضمّ تكنوقراطيين. الموضوع هل يمكن استعادة العراق الذي كان يوماً بلداً مزدهراً يعمل كلّ فرد فيه في الميدان والمجال المفترض أن يعمل فيهما؟ 

رجل الدين يهتمّ بالدين ونشر الفضيلة والتسامح والقيم الانسانية المتعارف عليها بدل التعصّب. رجل الدين لا يفهم بالسياسة التي لها أربابها. فمن شروط قيام دولة، اي دولة، ان تكون لهذه الدولة مؤسساتها الأمنية، في مقدّمها الجيش الوطني المحترف وليس مجموعة ميليشيات تعتبر نفسها مظلة لهذا الجيش، تنفّذ عبره أجندة خاصة بها، كما الحال مع «الحشد الشعبي» في العراق الآن.

تجاوزت أزمة العراق الاشخاص. مات العراق يوم الرابع عشر من تموز/يوليو 1958، كان البلد يمتلك ما يكفي من الثروات، بما في ذلك الثروة البشرية. من أدخله في النزع الأخير كان نوري المالكي الذي قضى لدى توليه السلطة، على كلّ أمل في إعادة بناء الدولة، خصوصاً بعدما استباح حزبه الطائفي والمذهبي كلّ مؤسسة رسمية وغير رسمية وكلّ ما يرمز الى الدولة، بما في ذلك الموازنة العامة التي تبخّرت بقدرة قادر في وقت كان سعر برميل النفط في مستوى مئة وعشرين دولاراً!

هل بقي شيء من العراق حتّى يمكن القول إن الإصلاحات التي ينادي بها مقتدى الصدر يمكن أن تنقذ ما يمكن إنقاذه؟