حمي الوطيس في بغداد، حيث بقي أقل من أسبوعين على الانتخابات البرلمانية العراقية، التي تقرر أيضاً رئاسة الوزراء.
هذه هي الانتخابات الرابعة منذ سقوط نظام صدام حسين، وكثيرون يصفونها بالديمقراطية المشوهة، بسبب نفوذ القوى الدينية، والتدخلات الأجنبية، والفساد السياسي. إنما تظل نسبياً أفضل من غيرها من الديمقراطيات العربية. ومع أن كثيرين تنبأوا بسقوط النظام السياسي البرلماني بخروج الأميركيين، وهم مهندسوه، إلا أن هذه هي الانتخابات الثانية التي تتم من دونهم.
الأميركيون صمموا نظام العراق ليكون برلمانياً فيدرالياً، وليس رئاسياً حتى يستوعب الاختلافات التي تميز العراق في إثنياته ولغاته وأديانه، ويتحاشى سلطة الفرد الواحد، وصار لكل مائة ألف مواطن مقعد واحد يمثلهم.
للفوز برئاسة الحكومة، يحتاج المرشح إلى الأغلبية، 165 نائباً، من إجمالي 329 نائباً. وبسبب التعددية الحزبية تقريباً يستحيل ذلك من دون تحالفات سياسية تحت قبة البرلمان. ومحافظة بغداد هي الأهم لأنها الأكبر بفارق كبير ولها 69 مقعداً.
العراقيون لهم تاريخ حضاري عظيم ينافس الرومان واليونانيين والفراعنة. هم من اخترع الحرف، وهم أول من كتب القانون. لكن الحضارات، بكل أسف، لا تورث، بل حتى التاريخ القريب للعراق لم يورث. من يتخيل أن العراقيين مارسوا التصويت في عشرة انتخابات في عهد الملكية في النصف الأول من القرن الماضي.
ففي العشرينات، أي قبل نحو مائة عام، كانت بغداد مدينة مزدهرة، حديثة، شبه أوروبية. بعد إخراجهم العثمانيين، بنى البريطانيون فيها مجلسين برلمانيين؛ أحدهما منتخب من العامة والآخر معين للشيوخ. وهم من أسس دولة العراق الحديثة بحدودها الحالية، وكذلك أقاموا نظاماً سياسياً يشبه نظامهم، فجعلوها مملكة في عام 1921. بعدها بـ11 سنة استقلت عن التاج البريطاني، ودامت المملكة العراقية مزدهرة إلى 1958 حينما ظهرت موجة الانقلابات العسكرية في المنطقة التي جلبت الدمار وعدم الاستقرار.
ولطالما كان العراق هدفاً للغزو، وممراً للغزاة وموطناً للحضارات المحلية مثل السومرية والبابلية. غزاه الرومان من الغرب، والساسانيون الفرس من الشرق، والمسيحيون العرب المناذرة من الشمال، والمغول من أطراف الصين، وعرب شبه الجزيرة من الجنوب، والأتراك والبريطانيون. العراقيون أنفسهم أمم متعددة، لهذا يحتاجون إلى هذا النظام الفيدرالي البرلماني، ضمن توازن دقيق، حتى يستطيعوا الحفاظ على العراق. وليس غريباً أن إيران الخامنئية تحاول جاهدة الاستيلاء على معظم جارتها العراق، اعتقاداً منها أن ذلك سيمنح نظامها الثيوقراطي النفوذ والديمومة، لكنها في الواقع تهدم المعبد على رأسها. كل الذين حاولوا ركوب وترويض هذا الحصان العراقي وقعوا، بمن فيهم عراقيون مثل صدام حسين، الذي بلغ به جنون العظمة أن يتصور أنه قادر على فرض نفوذه على إيران ودول الخليج العربية. ولهذا كررت الحكومة الأميركية الحالية تحذيراتها لطهران بأنها لن تسمح لها بالهيمنة على العراق كبلد استراتيجي. وما حدث في الانتخابات العراقية الماضية قصة لم تروَ بالكامل بعد، حيث قررت القوى العراقية والأميركيون ضرورة التخلص من نوري المالكي رئيس الوزراء الذي هيأ لنفسه الفوز بكل السبل. وتم التخلص منه في ليلة مظلمة، شبه انقلاب، والسيطرة على قواته الحرس الجمهوري. ولم يكن هناك شجاع داخل حزبه، حزب الدعوة، ليأخذ مكانه سوى حيدر العبادي بعد أن هرب مرشحون آخرون خوفاً من رفيقهم المالكي الذي هدد منافسيه بمحاكمات الفساد وغيرها من أجل أن يبقى في رئاسة الوزراء فترة ثالثة، والأرجح مدى الحياة.
الانتخابات المقبلة مهمة لتثبيت النظام السياسي، لكنها قد لا تُصلح من حال البلاد التي تحتاج إلى التفرغ للتنمية، وتقليص العسكرة، والتخلص من نفوذ نظام خامنئي