خرجت في العراق قبل أيام تظاهرات تندد بالفساد وتطالب بمحاسبة المسؤولين عنه. بلادُ الرافدين العائمة على آبارٍ من النفط، لا طاقة كافية فيها لتوليد الكهرباء، ولا موارد تُوظَّف لتأمين حدٍ أدنى من خدماتِ دولة. علماً أن «الدولة» في عراق اليوم، مصطلحٌ يفيض عن حقيقة وجودها. ففي ربوع البلاد هناك، ثمة «دولةٌ إسلامية» وسنجقٌ كردي وبقايا مؤسساتٍ تُدار من بغداد. وفيها طوائفُ وجماعات تبتدع كل يوم طقوسَ موتٍ وطرقَ عيش على شفيرِ الحياة. وفيها حلقاتٌ مقفلة من الانتقام والمعارك الوجودية التي غيّرت ديموغرافيا المحافظات والمدن، على دفعاتِ حروبٍ أهلية وتدخّلاتٍ خارجية. وفيها فوضى انتحاريين يَحارون من أي باب في الجنة يدخلون، وقوىً طائفية قررت أن الدِين قوّتها الشرائية الأجدى لاستيراد الجنة إلى الأرض، ولتسييلِ مواردها على شاكلة عقاراتٍ في لندن وغيرها من مدن الفسق أو الاستكبار.. أو سوى ذلك من شعاراتٍ تتستر بها لإدارة أعمالها.
برغم هذا كله، خرج آلاف العراقيين يطالبون ببديهيات حقوقهم التي ينهشها قلّة من تُجّار الموت مباشرة أو مواربة. فحصدوا دعم مرجعية النجف ونالوا جملةً من القرارات الحكومية التي تنتظر التنفيذ، في ما بدا استباقاً لاحتمال أن تكبُرَ كرة ثلج الاعتراض. والتنفيذ، كما دائماً، معلّقٌ على متابعة المطالبين وحسن تخطيطِهم وتنظيمهم، إلى جانب فهمهم موازين القوى وترتيبهم الأولويات، وخلاف ذلك من «عدّة عمل» أي مشروع تغيير منتج. تلك أمورٌ لا ضمانة لنجاحها. لكن جمعَ المتظاهرين رمى حجراً كبيراً في مياهٍ راكدة بالغة الابتذال. وارتداداتُ ذلك لم تظهر بكمالها بعد.
خرج في اللاذقية قبل أيام متظاهرون يطالبون بالاقتصاص من سليمان هلال الأسد، قريب الرئيس السوري، بعد قتله عقيداً في الجيش السوري إثر خلاف مروري. واللاذقية، برغم هدوئها النسبي، تحاذي خطوط النار كما غيرها من المدن، فيما سائر بلاد الشام يعيش داخل أتون الحرب لا على تماسها. لم تعد سوريا أقل فوضى من العراق في ذروة حربه الأهلية عامي 2006 و2007، بل تجاوزت ما سبقها من محطات دمٍ ودمار على امتداد المشرق الحديث.
في البلاد قطاعات سبق أن «انشقت» عن الدولة بعدما كفرت بنظامها. خرج كثيرٌ منها في تظاهرات ودخل كثير منها في سجون، وسارت الأمور في انحدارٍ منذ أن مارست أجهزةٌ أمنية هوايتها الدموية، وتغوّلت مقابلها تنظيماتٌ تحلم بتحصيل أمجادها بحدّ السيف و»إدارة التوّحش». لو أن المحاسبة، بحدّها الأدنى، موجودة منذ أربع سنواتٍ ونيّف، لما كان للخارج ربع ما يملكه من تأثير داخل سوريا اليوم، ولما سالَ لعابُه داخل أسوار الشام وأسواق حلب القديمة.
في سوريا ايضاً قطاعاتٌ ما زالت متمسكة بـ «خيار الدولة»، لا ملتحقة بخارج ولا مسلّمة بمشاريع ظلامية فرضها «واقعُ حالٍ» ومالُ نفطٍ وفتاوى عمائم. وهؤلاء ليسوا «علويي» اللاذقية كما يتقيّأ الإعلام الأصفر على مدار الساعة، ولا هم «سنة» الحسكة ودير الزور المقاتلون ضد «داعش»، ولا «سنة» حلب ودمشق و»مسيحيوهما» الذين يواجهون كتائب معارضة أخرى. هؤلاء، كما يعرّفون أنفسهم، «سوريون» متمسكون بالتعريف المذكور. وبرغم الانقسام العمودي الضارب في البلاد، فقد حانت فرصة بعضهم للقول قبل أيام إن الجيش خاسرٌ إن ظل «شبيحة» يفتحون ثغرةً في جنباته تلو أخرى، ويرتكبون باسم الدولة كامل الموبقات. وبرغم أولويات الدفاع والنفير العام، فقد آن أوان قولهم إن الموت من غير حساب، «مشروعٌ» يحتاج إعادة نظر. هل يسهم ذلك في فتح آفاق مغايرة للمسار الراهن؟ صعب الرهـــان على قطرة، وإن كان أول الغيـث معلّق عليها.
خرجت في بيروت جموعٌ محدودة للاعتراض على الدَرك الذي وصلت إليه حال العاصمة وسائر أنحاء البلاد. لبنان ناجٍ من سعير الحروب في الإقليم، لكن أياً من جماعاته ليست «فرقة ناجية» من آثارها. ما بين ربع وثلث عدد قاطنيه من اللاجئين، وبرغم ذلك لم ينزلق إلى الهاوية لوجود توافق خارجي يوفّر له شبكة أمان نسبي. على أن العيش في هذا البلد ما لبث أن تحوّل إلى جحيم موسمي. لم يعُد الأمر يتّصل بمسائل أمنية معلّق حلّها على وقع أحداث الإقليم فقط، بل بات يرتبط بدولة مُتداعية، تغازل تعريف «الدولة الفاشلة» وتسير بمحاذاته. تردي الخدمات زاد أحياناً عما هو موجود في ديار الحرب المحيطة. أعطال الكهرباء ونقص المياه وتكدّس القمامة في الشوارع لم تكن سوى عناوين عابرة لأزمات بنيوية، ازداد رسوخها مع تطبّع جيل ما بعد الحرب معها. نظام لبنان يكاد يصل اليوم إلى أعلى مراحل زبائنيته قبل انهيار الدولة أو فشلها. فيما صورٌ مستفزة كتلك الخاصة بقائد الجيش المُحتفل بالتمديد له مع زجاجة شمبانيا، وتصريحات الوزراء الذين يفصحون عن عجزٍ أو يبررون رشوة أو يتهربون من محاسبة أو يدعون المواطنين إلى التحمّل والاعتياد، بالكاد تثير أحداً.
في العراق وسوريا، حتى البيئة المؤيدة لـ «الدولة» أو «النظام» فيهما تتأفف. في لبنان ثمة قرى انتفضت على من يتكلّم باسمها حين وجدت أن الحلول المؤقتة على حساب أبنائها ولصالح حساباتٍ مصرفية متضخمة.
لم يعُد كثير من اللبنانيين مؤمناً بإمكانية التغيير. برغم ذلك، فهذا الكثير نفسه لم يعُد قادراً على التكيّف مع الهبوط من قعرٍ إلى آخر. ثمة قدرة على رفع مستوى المحاسبة والرقابة على من يمثلهم في أجهزة الدولة. وهناك مجالٌ للعمل المتدرج الذي يخدم في هذا الإطار. تظاهرة بيروت الأخيرة واحتجاجات برجا السابقة عليها متواضعتا الحجم قياساً بالموجبات، لكن البناء على الاثنتين مطلوب، كما هو الحال في ما يخص احتجاجات العراق وسوريا، أكثر من أي يوم آخر.