هذا الذي يحدث في رحاب أهل الحُكْم العراقي جديد على الحياة السياسية العربية،ذلك أنه إنقلاب بارد،أي بما معناه إن سُلطة حاكمة وجدت نفسها تحت وطأة تظاهرات شعبية ولقيت الدعْم من المرجعية الدينية تُقرر إنزال المساءلة في حق شركاء لهذه السلطة وأصحاب مناصب على مستوى القمة رغم أنها ليست مقرونة بالصلاحيات التي تتناسب مع تسمية المنصب الذي يشغله كل من هؤلاء الشركاء أبرزهم بين المدنيين رئيس الوزراء السابق نوري المالكي الذي حصَّنه التغيير وترئيس الدكتور حيدر العبادي بدلاً منه، بأن سماه نائباً لرئيس الجمهورية. ولو أن المنصب إقتصر عليه ولم يشمل أيضاً نظيره اللدود الدكتور إياد علاوي لكان بدا الأمر وكما لو أن المالكي في «إستراحة محارب للرئاسة» من أعباء الحكم يعود بعدها إلى ممارسة سلطته رئيساً للوزراء مدعوماً من مرجعيته الإيرانية. لكن شمْل الغير بالمنصب جعل المالكي يخطط من اليوم الأول لنصْب كمائن سياسية للرئيس الخلَف حيدر العبادي بغرض إحراجه فإفشاله فإقصائه عن كرسي الرئاسة لكي يعود المالكي ويتربع فوقها. ومن الكمائن السياسية المطعَّمة عسكرياً وأمنياً ما يتعلق بسقوط مدينة الموصل يوم 29 حزيران 2014 في أيدي «الدواعش».. هذاعدا تعقيدات وتجاوزات على صعيد إدارة شؤون الدولة أربكت الرئيس حيدر العبادي.
جاءت التظاهرات الشعبية من أجل أمور حياتية ومعيشية مثل الكهرباء والماء والغلاء تشكِّل مدخلاً مناسباً لوضْع حد للكمائن المالكية. وعندما أطلق القطب الدينوسياسي البارز مقتدى الصدر صيحته الصدرية ضد المالكي والمالكيين عموماً والتي كان لها صداها الفاعل بعدما حظيت بدعْم المرجعية الشيعية ذات التأثير آية الله السيستاني، وجد البرلمان العراقي نفسه مطالَباً بتأدية واجب عليه مسؤولية كبرى إذا هو لم يفعل. ولقد فعل وسْط إعتراضات نواب حزب المالكي الذين تلفُت تسميته الإنتباه وبعض التعجب وهي «دولة القانون» وتدحرجت الأسماء من مدنيين وعسكريين ووصل العدد إلى خمسة وثلاثين من بينهم عدا المالكي وزير الدفاع السابق سعدون الدليمي ورئيس أركان الجيش السابق بابكر زيباري ومساعده عبود قنبر وقائد القوات البرية علي غيدان..وآخرين. ومع التدحرج روايات عن المال والفساد المستشري والتقصير في تأدية الواجب.
ما بعد ذلك هنالك الواجب القضائي.وهنالك المحاكمات وهنالك وضْع النقاط على الحروف وتحديد المسؤوليات.ونقول ذلك لأن رئيس البرلمان الدكتور سليم الجبوري قرر أن يقرن طبيعة المنصب بالفعل على أساس أن البرلمان هو ممثل الشعب،ومن أجل ذلك أوصى بطبْع كتاب يتضمن قرار اللجنة البرلمانية في موضوع سقوط الموصل التي عملت بضعة أشهر لإنجاز تحقيقاتها، وجعْله رغم إعتراضات المالكيين، متاحاً لأبناء الشعب للإطلاع عليه.ونشير هنا إلى أن رئيس البرلمان قال في معرض الإشادة بلجنة التحقيق إنها «عملت بجد ومهنية وأدت عملها على أتم وجه»، وأن تقرير اللجنة «سيؤرخ لمرحلة جديدة ومهمة في تاريخ العراق» ويُحال على الإدعاء العام والقضاء وهيئة النزاهة بحيثياته وما فيه من أحداث داعياً القضاء «إلى أخْذ دوره في محاسبة المقصرين سواء مَن ورد إسمه في التقرير أو سيرِد لاحقاً…».
إلى ماذا سينتهي الأمر؟ وهل في حال صدرت الأحكام ومنها ما قد يصل إلى مشارف عقوبة الإعدام،سيتم التنفيذ؟ثم ماذا سيكون عليه موقف المرشد خامنئي بعدما سارع المالكي إلى الإجتماع به في طهران لكي يحميه من الذي يحدث وبحيث لا ينتهي أمره كما الأمر الذي ألحقه المالكي بنائب الرئيس طارق الهاشمي الذي ما زال بعيداً عن العراق حاله في ذلك من حال اللواء أحمد شفيق رئيس الوزراء السابق في مصر وكلاهما ضيفان في دولة الإمارات.
من هنا القول إن الذي جرى وما زال في العراق إنقلاب سياسي بارد.ومن هنا التساؤل: هل ينتهي البارد ساخناً؟ وهل هذا الذي جرى في بلاد الرافديْن يمكن أن يجري في بعض بلاد الأمة عِلْماً بأن موجبات الحدوث كثيرة؟ والله المعين للبرلمانات التي يمكن أن تفعل ذلك بدءاً ببرلماننا اللبناني المنوَّم وحكومتنا المستغرِقة في إغفاءة حافلةٍ بالكوابيس.